الخلافات في الحركه العماليه الاوروبية


صدرة للمرة الاولى في كانون الاول (ديسمبر) 1910
في جريدة زفيزدا (النجم ) العدد 1، 16
النسخ الالكتروني: نرمين ناصر (مايو 2004)


إن الخلافات التكتيكية الرئيسية في الحركة العمالية المعاصرة في أوروبا وأميركا تنحصر في النضال ضد اتجاهين قويين ينحرفان عن الماركسية التي غدت بالفعل النظرية السائدة في الحركة. وهذان الاتجاهان هما النزعة التحريفية (الانتهازية الإصلاحية) والفوضوية (النقابية-الفوضوية، الاشتراكية-الفوضوية). إن هذين الانحرافين عن النظرية الماركسية والتكتيك الماركسي، السائدين في الحركة العمالية يتخذان شتى الأشكال وشتى الألوان في جميع البلدان المتمدنة، خلال تاريخ الحركة العمالية الجماهرية، أي خلال أكثر من نصف قرن.

من هذا الواقع وحده ينجم أنه لا يمكن تفسير هذين الانحرافين لا بالصدفة، ولا بأخطاء بعض الأشخاص أو الجماعات، ولا حتى بتأثير الخصائص أو تقاليد القومية، الخ… فلا بد أن تكون ثمة أسباب جوهريه تكمن في النظام الاقتصادي، في طابع تطور جميع البلدان الرأسمالية، وتولد هذين الانحرافين على الدوام. إن الكتيب الذي أصدره في السنة الماركسي الهولندي أنطوان بانكوك Anton Penacook. (الخلافات التكتيكية في الحركة العمالية ) (.taktischen Differenzen in der Arbeiterbewegung .. Hambburg، Erdmann Dubber، 1909) هو محاوله مفيدة وطريفة لتحليل هذه الأسباب تحليلا عمليا. وفي سياق هذا العرض، سنطلع القارئ على استنتاجات بانكوك التي لا بد من الاعتراف بصحتها المطلقة. من أعمق الأسباب التي تولد خلافات دوريه بصدد التكتيك، واقع نمو الحركة العمالية بالذات. فإذا اعتبرنا هذه الحركة حركه عمليه يقوم بها أناس عاديون، بدلا من أن نقيسها بمقياس ما لا يعلم من مثل عليا غريبة، تبين لنا بوضوح أن اجتذاب (منتسبين) جدد أبدا، إن اشتراك فئات جديدة من الجماهير الكادحة، لا بد أن يصحبه حتما ترددات في ميدان النظرية والتكتيك، وتكرار للأخطاء السابقة، وعوده مؤقتة إلى المفاهيم والأساليب البائدة، الخ.. إن الحركة العمالية في كل بلد تنفق دوري، على (تعليم )المنتسبين الجدد، احتياطيات متفاوتة القدر من العزيمة والانتباه والوقت.

وبعد، إن الرأسمالية لا تتطور بنفس السرعة في مختلف البلدان وفى شتى فروع الاقتصاد الوطني. والماركسية إنما تستوعبها الطبقة العاملة ومفكروه، على الوجه الأسهل والأسرع والأكمل والأرسخ، في ظروف الحد الأقصى من تطور الصناعة الكبيرة. والعلاقات الاقتصادية المتأخرة أو التي تتأخر في تطوره، تحمل ابدا على ظهور أنصار للحركة العمالية لا يستوعبون سوى بعض جوانب الماركسية، سوى بعض أقسام من المفهوم الجديد، سوى بعض الشعارات والمطالب، ويكونون عاجزين عن التخلص بحزم من جميع تقاليد المفاهيم البرجوازية بوجه عام المفاهيم البرجوازية-الديمقراطية بوجه خاص.

وفضلا عن ذلك، ثمة ينبوع للخلافات لا ينضب، هو الطابع الديالكتيكي للتطور الاجتماعي الذي يجري في غمرة من التناقضات وعن طريق التناقضات. إن الرأسمالية تقدميه، لأنها تدمر أساليب الإنتاج القديمة وتنمي القوى المنتجة ولكنها في الوقت نفسه تعرقل نمو القوى المنتجة، عند بلوغ درجه معينه من التطور. والرأسمالية تطور العمال، وتنظمهم، وتعودهم على التقييد بالنظام، وهي تضغط وتضطهد، وتقود إلى الانحطاط، والبؤس، الخ.. والرأسمالية تخلق بنفسها حفار قبره، تخلق بنفسها عناصر نظام جديد، ولكن هذه العناصر المنعزلة لا تغير شيئا في الوضع العام، لا تمس سيطرة الرأسمال، إذا لم تحدث (قفزه). إن هذه التناقضات في الحياة الفعلية، في التاريخ الحي للرأسمالية والحركة العمالية، إنما الماركسية، بوصفها نظريه المادية الديالكتيكيه، هي التي تعرف كيف تفسرها وتوضحها. بيد أنه غني عن البيان أن الجماهير تتعلم في الحياة لا في الكتب. ولذا ثمة أناس أو جماعات يبالغون على الدوام في شأن هذه الميزة أو تلك من التطور الرأسمالي، هذه (الدرس) أو ذاك من هذا التطور، ويحولونهما إلى نظريه وحيدة الطرف، إلى نهج تكتيكي وحيد الطرف.

إن المفكرين البرجوازيين الليبراليين والديمقراطيين، الذين لا يفهمون الماركسية، الذين لا يفهمون الحركة العمالية المعاصرة، يقفزون أبدا من طرف قصي عاجز إلى طرف أخر. فهم تارة يفسرون الأمور بكون ثمة أناس أشقياء (يحرصون) طبقه ضد طبقه، وطورا يعزون أنفسهم قائلين إن حزب العمال هو (حزب إصلاحات مسالم) ومن النتائج المباشرة لهذا المفهوم البرجوازي وتأثيره، النقابية – الفوضوية والإصلاحية، اللتان تتمسكان بمظهر واحد من مظاهر الحركة العمالية، وتحولان هذه الحركة أو ميزاتها تنفي بعضها بعض، مع العلم أن هذه الاتجاهات أو الميزات هي الخاصة التي تميز هذه المرحلة أو تلك، هذه الظروف أو تلك من نشاط الطبقة العاملة. والحال، إن الحياة الفعلية، إن التاريخ الفعلي، يحتوي هذه الاتجاهات المختلفة، كما إن الحياة والتطور في الطبيعة يحتويان التطور البطيء والقفزات السريعة، والانقطاعات. إن المحترفين يعتبرون تعابير فارغة جميع المحاكمات حول (القفزات) وحول التضاد المبدئي بين الحركة العمالية والمجتمع القديم بأسره. ويرون في الإصلاحات تحقيقا جزئيا للاشتراكية. إن النقابي-الفوضوي يرفض (العمل الحقير) وبخاصة استخدام المنبر البرلماني. غير أن هذا التكتيك الأخير يؤدي بالفعل إلى انتظار (الأيام الكبيرة) دون معرفة حشد القوي التي تخلق الأحداث الكبيرة. والفريقان كلاهما يعرقلان العمل الأكثر أهمية وإلحاحا. جمع العمل في منظمات واسعة، قوية تعمل حسنا وتعرف كيف تعمل حسنا في جميع الحالات، منظمات مشبعة بروح النضال الطبقي، مدركة هدفها بوضوح، مرباة بروح المفهوم الماركسي الحقيقي.

وإني لأسمح لنفسي هنا استطرادا صغيرا وألاحظ بين هلالين، بغية اجتناب ما يحتمل من سوء الفهم، إن بانكوك يوضح تحليله بأمثلة مستقاة بوجه الحصر من تاريخ أوروبا الغربية، وبخاصة من تاريخ ألمانيا وفرنس، دون أن تخطر روسيا في باله أبدا. وإذا كان يخال أحيانا انه يلمح إلى روسي، فذلك لسبب واحد فقط، وهو أن الاتجاهات الأساسية، التي تولّد بعض الانحرافات عن تكتيك الماركسي، تتجلى عندنا أيض، رغم الفرق الشاسع بين روسيا والغرب من حيث الثقافة، والمعيشة، والأوضاع التاريخية والاقتصادية .

وأخيرا ثمة سبب بالغ الأهمية يولّد خلافات بين أعضاء الحركة العمالية، هو التغيرات التكتيكية التي تلجا إليها الطبقات الحاكمة بوجه عام، والبرجوازية بوجه خاص. فلو أن تكتيك البرجوازية كان دائما وحيد الشكل، أو كان دائما على الأقل من النوع نفسه، لتعلمت الطبقة العاملة بسرعة أن ترد عليه بتكتيك وحيد الشكل أيضا أو من النوع نفسه. إلا أن برجوازية جميع الأقطار تصوغ حتم، في الواقع، نهجين للحكم، أسلوبين للنضال، دفاعا عن مصالحها وذودا عن سيطرته، مع العلم أن هذين الأسلوبين يتعاقبان تارة وطورا يتعاقدان بمختلف التنسيقات. الأسلوب الأول هو أسلوب العنف، أسلوب رفض كل تناول للحركة العمالية، ودعم جميع المؤسسات القديمة البائدة، والتشدد د في إنكار الإصلاحات. ذلك هو جوهر السياسة المحافظة التي تكف أكثر فأكثر في أوروبا الغربية عن أن تكون سياسة طبقة الملاكين العقارين والتي تغدو أكثر فأكثر شكلا من أشكال السياسة البرجوازية العامة. أما الأسلوب الثاني، فهو أسلوب (الليبرالية) والتدابير المتخذة باتجاه توسيع الحقوق السياسية، باتجاه الإصلاحات، والتنازلات، الخ ...

والبرجوازية تنتقل من أسلوب إلى أخر، لا بدافع الصدقة ولا بدافع حساب سيء النية يقوم به بعض الأشخاص، بل بدافع التناقض الأساسي في وضعها بالذات. إن مجتمعا رأسماليا عاديا لا يستطيع إن يتطور بنجاح دون نظام تمثيلي مستقر. دون بعض الحقوق السياسية تمنح للشعب الذي لا يمكن إلا يكون شديد المطالبة نسبيا في المضمار (الثقافي). إن هذه المطالبة بحد أدنى معين من الثقافة ناجمة عن شروط أسلوب الإنتاج الرأسمالي نفسه، بسبب تكنيه العالي، وتعقده، ومرونته وسهولة حركته، وسرعة تطور المزاحمة في العالم بأسره، الخ .. ولذا فإن الذبذبات في تكتيك البرجوازية، والانتقال من نهج العنف إلى نهج التنازلات المزعومة، هي من مستلزمات تاريخ جميع البلدان الأوروبية في نصف القرن الأخير، ناهيك عن شتى البلدان تفضل تطبيق هذا الأسلوب أو ذاك خلال مراحل معينه. مثل، في العقدين السابع والثامن من القرن التاسع عشر كانت انجلترا البلد الكلاسيكي للسياسة البرجوازية (الليبرالية) وفي العقدين الثامن والتاسع اتبعت ألمانيا أسلوب العنف، الخ.

حين كان هذا الأسلوب سائدا في ألماني، ولد هذا المنهج من مناهج الحكم البرجوازي صدى وحيد الطرف، هو تطور النقابية-الفوضوية، أو كما كان يقال حينذاك، تطور الفوضوية في الحركة العمالية (الشباب) في مطلع سنوات العقد العاشر، يوهان موسست في مطلع سنوات العقد التاسع. وحين جرى في 1890 انعطاف، كما هي الحال أبد، أشد خطرا على الحركة العمالية، لأنه ولّد صدى وحيد الطرف أيضا في (النزعة الإصلاحية) البرجوازية، أي انتهازية في الحركة العمالية. وقد كتب بانيكوك يقول "إن الهدف الايجابي، الفعلي، للسياسة الليبرالية التي تنتهجها البرجوازية، هو تضليل العمال وشق صفوفهم، وتحويل سياستهم إلى ذيل هزيل لسياسة النزعة الإصلاحية المزعومة، هذه النزعة الهزيلة والوهمية دائما.

في كثير من الأحيان، تبلغ البرجوازية هدفها، لفترة من الزمن، بوساطة سياسة (ليبرالية)، هي، حسب ملاحظة بانيكوك الصحيحة، سياسة (أكثر مكرا). وأحيانا، ينخدع قسم من العمال، قسم من ممثليهم، بتنازلات ظاهرية. إن المنحرفين يعلنون أن تعاليم النضال الطبقي مذهب (بائد)، أو أنهم أخذوا ينتهجون سياسة هي عمليا سياسة التخلي عن هذا النضال. إن اعوجاجات التكتيك البرجوازي تؤدي إلى تعزيز النزعة التحريفية في الحركة العمالية وغالبا ما تدفع الخلافات داخل هذه الحركة إلى حد الانشقاق السافر.

إن جميع الأسباب من النوع المشار إليه تثير خلافات في الحركة العمالية، في الأوساط البروليتارية حول التكتيك الواجب تطبيقه، ولكن ليس ثمة ولا يمكن أن يكون ثمة سور كسور الصين بين البروليتارية وفئات البرجوازية الصغيرة، بما فيها جماهير الفلاحين، القريبة منها. ولذا كان من المفهوم أنه لا بد لانتقال بعض الأشخاص والجماعات والفئات من البرجوازية الصغيرة إلى البروليتاريا أن يولّد، بدوره، ذبذبات في تكتيك البروليتاريا. إن تجربة الحركة العمالية في مختلف البلدان تساعد على تنوير طبيعة التكتيك الماركسي، في قضايا النشاط العملي الملموسة، وهي تساعد أفتى البلدان في أن تتفهم على وجه أفضل الأهمية الاجتماعية الحقيقية للانحرافات عن الماركسية، كما تساعدها في مكافحة هذه الانحرافات بمزيد من النجاح.