كارل ماركس

حول المسألة اليهودية


كتبها كارل ماركس في خريف عام 1843.
نشرت لأول مرة في شهر فبراير عام 1844 في Deutsch-Franzosische Jahrbucher (الحولية الألمانية الفرنسية) بباريس
ترجمة: د. نائلة الصالحي
التحويل الرقمي
: وجدي حمدي (يوليو 2004)
التحرير الرقمي: علي بطحة (فبراير 2023)


-1-
برونوباور: « المسألة اليهودية » براونشفايغ 1843


يطالب اليهود الألمان بالتحرر، فبأي تحرر يطالبون ؟ التحرر كمواطنين، التحرر السياسي.

يجيبهم برونو باور [1] : ليس ثمة من هو متحرر سياسيا في ألمانيا. نحن أنفسنا لسنا أحرارا، فكيف نستطيع تحريركم ؟ أنتم اليهود أنانيون. حين تطالبون لأنفسكم كيهود بانعتاق خاص، عليكم أن تعملوا كألمان من أجل انعتاق ألمانيا السياسي، و كبشر من أجل الانعتاق البشري. وألا تشعروا أن النوع الخاص لاضطهادكم و لذُلكم استثناء عن القاعدة وإنما هو تأكيد لها.

أم ترى أن اليهود يطالبون بالمساواة مع أبناء الرعية المسيحيين ؟ إنهم يعترفون بذلك بشرعية الدولة المسيحية و طبقا لذلك بسلطة الاستعباد العام. لماذا يستهجنون نيرهم الخاص إذا كان النير العام يعجبهم ! لماذا ينبغي للألماني أن يهتم بتحرِر اليهود إذا كان اليهودي لا يهتم بتحرير الألماني ؟

لا تعرف الدولة المسيحية إلا الامتيازات، و اليهودي يملك فيها امتياز كونه يهوديا. وله كيهودي حقوق ليست للمسيحيين. فلماذا يطالب بحقوق ليست له، يتمتع بها المسيحيون ؟

حين يريد اليهودي التحرر من الدولة المسيحية فإنه يطاب أن تتخلى الدولة المسيحية عن حكمها الديني المسبق. فهل يتخلى هو اليهودي عن حكمــه الديني المسبق ؟ أفيكون من حقه أن يطلب من غيره أن يتخلى عن الدين ؟

لا تستطيع الدولة المسيحية تبعا لجوهره أن تعتق اليهودي، ولكن لا يستطيع اليهودي أيضا من حيث جوهره أن ينعتق، كما يضيف باور. طالما بقيت الدولة مسيحية واليهودي يهوديا فإِن كليهما على السواء غير قادر على منح التحرر أو تلقيه.

لا تستطيع الدولة المسيحية أن تسلك إزاء اليهود إلا بطريقة الدولة المسيحية، هذا يعني بطريقة منح الامتيازات، أيِ بأن تسمح بتمييز اليهود عن بقية أبناء الرعية، ولكنها تجعله يشعر بضغط المجالات الأخرى المتميزة، وبصورة أشد حين يكون اليهودي في تعارض ديني مع الدين السائد. ولكن اليهودي أيضا لا يستطيع أن يقف من الدولة إلا موقفا يهوديا، هذا يعني أنه يقف من الدولة موقف الغريب، بأن يضع قوميته الوهمية مقابل القومية الحقيقية ويضع قانونه المتوهم مقابل القانون الحقيقي بأن يظن أن من حقه أن يتمايز عن البشرية، بأن يحجم مبدئيا عن المشاركة في الحركة التاريخية، بأن يطمح في مستقبل لا يجمعه بالمستقبل العام. للإنسان شيء، بأن يعتبر نفسه عضوا في الشعب اليهودي ويعتبر الشعب اليهودي الشعب المختار.

إذن فباسم أي شيء تطالبون أيها اليهود بالإنعتاق ؟ أمن أجل دينكم ؟ إنه الدين الأكثر عداء لدين الدولة. كمواطنين ؟ ليس في ألمانيا مواطنون. كبشر ؟ لستم بشرا، شأنكم شأن من توجهون إليهم نداءكم.

طرح باور مسألة تحرر اليهود طرحا جديدا بعد أن وجه الانتقاد إلى الطروحات والحلول التي كانت قائمة حتى ذلك الوقت. إنه يتساءل: ما هي طبيعة اليهودي الذي يريد التحرر والدولة المسيحية التي يفترض أن تحرره ؟ وهو يجيب من خلال نقد للديانة اليهودية، فهو يحلل التناقض بين اليهودية والمسيحية ويوضح جوهر الدولة المسيحية، وكل هذا بشجاعة ووضوح وظرافة وعمق، بأسلوب يتصف أيضا بالدقة والمتانهَ والحيوية.

كينا يحل باور إذن المسألة اليهودية ؟ وما هي النتيجة ؟ إن صياغة مسألة ما تتضمن حلها. ونقد المسألة اليهودية هو جواب عن المسألة اليهودية. الخلاصة هي ما يلي:

علينا أن نحرر أنفسنا قبل أن نكون قادرين على تحرير الآخرين.

أكثر أشكال التناقض بين اليهودي والمسيحي صلابة هو التناقض الديني. كيف يحل المرء تناقضا ما ؟ بجعله مستحيلا. وكيف يجعل المرء تناقضا دينيا مستحيلا ؟ من خلال إلغاء الدين. وحالما يرى كل من اليهودي والمسيحي دين الآخر مجرد مراحل تطور مختلفة للفكر الإنساني ويتعرفا فيهما على جلدي أفعى سلخهما التاريخ و على الإنسان الذي يمثل الأفعى التي كانت في هذين الجلدين، فلن تكون العلاقة بينهما علاقة دينية وإنما علاقة علمية نقدية وحسب، علاقة إنسانية. يكون العلم وحدتها. أما التناقضات في العلم فيحلها العلم نفسه.

يواجه اليهودي الألماني خاصة انعدام التحرر السياسي بوجه عام ومسيحية الدولة الواضحة. إلا أن المسألة اليهودية تكتسب في رأي باور أهمية عامة مستقلة عن الظروف الألمانية. إنها مسألة علاقة الدين بالدولة والتناقض بين التحيز الديني والتحرر السياسي. يطرح التحرر من الدين كشرط أمام اليهودي الذي يريد أن يتحرر سياسيا والدولة التي ينبغي أن تحرره وتكون نفسها متحررة،على السواء.

يقول المرء حسنا، ويقولها اليهودي نفسه أيضا، إذ لا ينبغي لليهودي أن يحرر كيهودي، وليس لأنه يهودي، وليس لأنه يملك مبدأ إنسانيا عاما مصيبا للأخلاق، بل أكثر من ذلك سيتراجع اليهودي خلف المواطن و يكون مواطن رغم كونه يهوديا وينبغي أن يبقى يهودي. هذا يعني أنه يهودي ويبقى يهودي رغم كونه مواطن و يعيش في ظروف إنسانية عامة: إن طبيعته اليهودية المحدودة تنتصر دائما و أخيرا على واجباته الإنسانية والسياسية. يبقى الحكم المسبق رغم ذلك بطغيان المبادئ العامة عليها. ولكنها حين تبقى فإنها تطغى على كل ما عداها".

"لا يستطيع اليهودي أن يبقى يهوديا في الحياة العامة للدولة إلا سفسطائيا فقط، ظاهريا. وإذا أراد أن يبقى يهوديا سيصبح المظهر المجرد وجوده الجوهري وينتصر، هذا يعني أن حياته في الدولة تصبح مجرد مظهر أو استثناء مؤقتا للجوهر والقاعدة. ("قدرة يهود ومسيحيي اليوم على التحرر" الملزمة الحادية والعشرون، ص 57)

لنسمع من ناحية أخرى كيفا يطرح باور مهمة الدولة.

«  القد منحتنا فرنسا مؤخرا (مناقشات مجلس النواب في 26 ديسمبر 1840) فيما يتعلق بالمسألة اليهودية – كما تفعل في جميع المسائل السياسية الأخرى على الدوام– مشهد حياة حرة، ولكنها تخرق حريتها في القانون، و هكذا تجعل منه أيضا مظهرا، ومن جهة أخرى تنقض قانونها الحر من خلال الفعل. » (المسألة اليهودية، ص 57).

« لم تصبح الحرية العامة في فرنسا قانونا بعد، ولم تحل المسألة اليهودية أيضا، لأن الحرية القانونية – التي يتساوى فيها جميع المواطنين – في الحياة التي تسيطر عليها وتقسمها الامتيازات الدينية تصبح محددة، وانعدام حرية الحياة هذا ينعكس في القانون الذي يرغم بدور على الموافقة على تقسيم المواطنين الأحرار إلى مضطَهَدين ومضطهِدين » (ص 65).

و إذن فمتى ستحل المسألة اليهودية بالنسبة لفرنسا ؟

« يجب أن يكون اليهودي على سبيل المثال قد كف عن يكون يهوديا، حين لا يدع قانونه يعيقه عن اداء واجباته إزاء الدولة وشركائه في المواطنة، أي أن يذهب مثلا في يوم السبت إلى مجلس النواب ويشارك في المناقشات العامة. يجب إلغاء كل الامتيازات الدينية بشكل عام بما في ذلك أيضا احتكار كنيسة ذات امتيازات خاصة، وإذا كان البعض أو العديدون أو الغالبية العظمى لا تزال تعتقد أن عليها أن تؤدي واجبات دينية، فينبغي أن يترك ذلك لهم كمسألة شخصية بحتة. » (ص 65)

« لا يعود ثمة دين حين لا يعود ثمة دين يتمتع بالامتيازات. خذوا الدين قوته المميزة له فلا يعود له وجود. » (ص 66)

«  حسنا، فكما رأى السيد مارتان دي نور في اقتراح عدم ذكر يوم الأحد في القانون طلب الإعلان بأن المسيحية كفت عن الوجود، فإِنه بنفس الحق (و هذا الحق مبرر تماما) سيكون الإعلان بأن قانون السبت لليهود لم يعد ملزما، سيكون إعلان حل اليهودية. (ص 71)

و هكذا يطلب باور أن يتخلى اليهودي عن يهوديته و الإنسان بوجه عام عن الدين من جهة، ليتحرر كمواطن. ومن جهة أخرى يعتبر الإلغاء السياسي للدين كتبعة لذلك إلغاء للدين بشكل عام. إن الدولة التي تشترط الدين لم تصبح بعد دولة حقيقية، دولة واقعية.

« إلا أن التصور الديني يعطي للدولة ضمانات. ولكن أي دولة ؟ أي نوع من الدول ؟  » (ص 97)

في هذه النقطة يظهر المفهوم أحادي الجانب للمسألة اليهودية.

لا يكفي بأية حال من الأحوال أن نبحث: من الذي سيقوم بالتحرِر ومن الذي سيحرر ؟ فعلى النقد أن يقوم بشيء ثالث. عليه أن يسأل: بأي نوع من التحرر يتعلق الامر ؟ أي شروط تقع في صلب التحرر المطلوب ؟ لقد كان نقد التحرر السياسي نفسه هو النقد النهائي للمسألة اليهودية و ذوبانها الحقيقي في "مسألة العصر العامة."

و لأن باور لم يرفع المسألة إلى هذا المستوى فإنه يسقط في التناقضات. إنه يضع شروطا لا تنتمي إلى طبيعة التحرر السياسي نفسه. وهو يطرح أسئلة لا تدخل ضمن واجباته، ويحل واجبات تترك سؤاله غير محلول. حين يقول باور عن مناهضي تحرر اليهود: « كان خطؤهم فقط هو أنهم افترضوا أن الدولة المسيحية هي الدولة الحقيقية الوحيدة، ولم يخضعوها للنقد الذي نظروا به إلى اليهودية » (ص3)، فإننا نرى خطأ باور في أنه انتقد "الدولة المسيحية" وحده وليس الدولة بوجه عام، وأنه لم يتناول بالبحث العلاقة بين التحرر السياسي والتَحرر الإنساني ويضع بذلك شروطا لا يمكن تفسيرها إلا بخلط غير نقدي بين التحرر السياسي والتحرر الإنساني العام. حين يسأل باور اليهود: هل لديكم الحق وأنتم في موقفكم أن تطلبوا التحرر السياسي ؟ فإِننا نطرح السؤال المعاكس: هل لموقف التحرر السياسي الحق في أن يطلب من اليهود التخلي عن اليهودية ومن الناس التخلي عن الدين بوجه عام ؟

تكتسب المسألة اليهودية مفهوما متغيرا حسب الدولة التي يوجد اليهودي فيها. ففي ألمانيا حيث لا توجد دولة سياسية، أي لا توجد الدولة كدولة، فإن المسألة اليهودية هي مسألة لاهوتية محضة. يجد اليهودي نفسه في تناقض ديني مع الدولة التي تقر بأن المسيحية تشكل أساسها. هذه الدولة هي دولة لاهوتية محترفة. و النقد هنا هو نقد اللاهوت، نقد ذو حدين، نقد للاهوت المسيحي وللاهوت اليهودي. ولكننا لا زلنا بهذا نتحرك في اللاهوت مهما أردنا أن نتحرك فيه نقدي.

المسألة اليهودية في فرنسا، الدولة الدستورية، هي مسألة النظام الدستوري، مسألة نصف التحرر السياسي. لأن مظهر الدولة الدينية هنا باق، وإن كان في صيغة متناقضة تفتقر إلى الدلالة، في صيغة دين الأغلبية، فإن علاقة اليهودي بالدولة تتخذ مظهر تناقض ديني لاهوتي.

تفقد المسالة اليهودية معناها اللاهوتي و تصبح مسألة دنيوية حقا في الدول الأميركية الشمالية الحرة فقط، في قسم منها على الأقل. حيثما توجد الدولة السياسية في بنائها الكامل فقط يمكن أن تبرز علاقة الِيهودي ولإنسان المتدين بوجه عام، إزاء الدولة السياسية، أي علاقة الدين بالدولة، في خصوصيتها ونقائها. ويكف نقد هذه العلاقة أن يكون نقدا لاهوتيا حالما تكف الدولة عن أن تقف موقفا لاهوتيا من الدين، أي سياسي. عندئذ يصبح النقد نقد الدولة السياسية. عند هذه النقطة حيث تكف المسألة أن تكون لاهوتية يكف نقد باور أن يكون نقديا.

« لا يوجد في الولايات المتحدة لا دين للدولة ولا دين رسمي للأغلبية، ولا أفضلية عبادة على غيرها. وليس للدولة شأن بأي من العبادات. » (ماري، أو الرق في الولايات المتحدة الخ، ج. دي بومون، باريس 1835، ص 214)

نعم، توجد بعض الولايات الأميركية حيث « لا يجعل الدستور العقيدة الدينية أو ممارسة عبادة معينة شرطا للامتيازات السياسية » (المرجع السابق، ص 225)

و لكن « لا يعتقد المرء في الولايات المتحدة أن الإنسان يمكن أن يِكون إنسانا مستقيما دون دين » (نفس المصدر، ص 224)

و مع ذلك فإِن شمال أميركا هو بلد التدين بصورة خاصة كما يؤكد كل من بومون وتوكفيل والانكليزي هاملتون بالإجماع. الولايات الأميركية الشمالية هي بالنسبة لنا مجرد مثال. فالسؤال هو:ما هو موقف التحرر السياسي الكامل من الدين ؟ المسألة هي: كيف يقف التحرر السياسي الكامل من الدين ؟ فإِذا كنا نجد حتى في بلد التحرر السياسي الكامل ليس وجود الدين وحسب و إنما وجود الدين المفعم بالحياة والقوة أيضا، يكون الدليل قد قدم على أن وجود الدين لا يتعارض مع قيام الدولة الكاملة. ولكن لأن وجود الدين هو وجود لنقص، فإن مصدر هذا النقص لا يمكن أن يبحث عنه إلا في جوهر الدولة نفسه. لا يعود الدين بالنسبة لنا هو الأساس وإنما كظاهرة للمحدودية الدنيوية وحسب. ومن هنا فإننا نفسر اللاموضوعية الدينية للمواطنين الأحرار بلاموضوعيتهم الدنيوية. لا ندعي أن عليهم أن يتخلوا عن محدوديتهم الدينية، ليزيلوا حواجزهم الدنيوية. بل نزعم أنهم سيتخلون عن محدوديتهم الدينية حالما يزيلون حواجزهم الدنيوية. إننا لا نحول المسائل الدنيوية إلى مسائل لاهوتية، وإنما اللاهوتية إلى دنيوية. نحل الغيبيات في التاريخ بعد أن انحل التاريخ وقتا كافيا في الغيبيات. تصبح مسألة علاقة التحرر السياسي بالدين بالنسبة لنا علاقة التحرر السياسي بالتحرر البشري. إننا ننتقد الضعف الديني للدولة السياسية حين ننتقد الدولة السياسية في بنيتها الدنيوية بصرف النظر عن الضعف الديني. إننا نؤنسن تناقض الدولة مع دين معين، كاليهودية مثلا، في التناقض بين الدولة وعناصر دنيوية معينة والتناقض بين الدولة والدين بوجه عام، في التناقض بين الدولة وشروطها بوجه عام.

التحرر السياسي لليهودي والمسيحي والإنسان المتدين بوجه عام هو تحرر الدولة من اليهودية والمسيحية ومن الدين بوجه عام. تتحرر الدولة في شكلها، الذي يتضمن جوهرها الخاص كدولة، من الدين بتحررها من دين الدولة، هذا يعني بعدم إقرار الدولة كدولة بدين، بل بإِقرارها بكونها دولة. ليس التحرر السياسي من الدين هو التحرر من الدين المطبق والخالي من التناقضات، لأن التحرر السياسي ليس الأسلوب المطبق والخالي من التناقضات للتحرر البشري.

تبدو حدود التحرر السياسي في الحال في قدرة الدولة على تحرير نفسها من حاجز لا يكون الإنسان متحررا منه فعلا، وفي أن الدولة يمكن أن تكون دولة حرة [تلاعب لفظي على كلمة Freistaat التي تعني أيضا جمهورية] دون أن يكون الإنسان حر. يعترف باور نفسه بذلك ضمنا حين يضع الشرط التالي للتحرر السياسي:

« يجب إلغاء كل امتياز ديني بوجه عام بما في ذلك احتكار كنسية تتمتع بالامتيازات، وإذا كان البعض أو العديد أو الغالبية العظمى لا تزال تعتقد أن عليها أن تؤدي واجبات دينية، فإِن هذا الأداء مسألة خاصة تماما متروكة لها. »

و هكذا يمكن للدولة أن تكون قد انعتقت من الدين، حتى حين تكون الغالبية العظمى متدينة. ولا تكف الغالبية العظمى من خلال ذلك أن تكون متدينة، أن تكون متدينة في حياتها الخاصة.

و لكن موقف الدولة والجمهورية [Freistaat] خاصة من الدين، إنما هو موقف الناس الذين يشكلون الدولة من الدين وحسب. والخلاصة هي أن الإنسان من خلال الوسيط الذي هو الدولة يتحرر سياسيا من حاجز بأن يرتفع فوق هذا الحاجز بطريقة تجريدية ومحدودة وجزئية متناقضا مع نفسه. وأبعد من هذا أن الإنسان يتحرر بتحرره سياسيا، بطريقة غير مباشرة من خلال وسيط، ولو كان هذا الوسيط ضروريا. وأخيرا يبقى الإنسان حتى حين يعلن إلحاده بوساطة الدولة، هذا يعني حين يعلن إلحاد الدولة، يبقى مع ذلك متحيزا للدين، ذلك أنه يعترف بنفسه بطريقة غير مباشرة، من خلال وسيط فقط. فالدين هو الاعتراف بالإنسان بطريقة غير مباشرة، عبر وسيط. الدولة هي الوسيط بين الإنسان وحريته، فكما أن المسيح وسيط يحمله الإنسان كل ألوهيته، كل تحيزه الديني فإِن الدولة هي الوسيط الذي يضع فيه كل بشريته وكل تحيزه البشري.

يشترك ارتقاء الإنسان السياسي فوق الدين مع الإرتقاء السياسي بكل النقائص والفضائل بوجه عام. فقد تلغي الدولة كدولة الملكية الخاصة على سبيل المثال، فيعلن الفرد بطريقة سياسية أن الملكية الفردية قد ألغيت، حالما يجعل التعداد العام أساسا لقابلية المرء أن يُنتخَب أو ينتخِب، كما حصل في عدد كبير من ولايات أميركا الشمالية. يفسر هاملتون هذه الواقعة من منطلق سياسي تفسيرا صحيحا تماما:

« القد حققت العامة الانتصار على المالكين والثروة النقدية. » (توماس هيملتون "الناس و التصرفات في أمريكا"، مجلد 2، ايدنبرغ، 1833، ص 146)

أليست الملكية الخاصة في وضع نموذجي حين يكون من لا يملك قد أصبح المشرع للمالك ؟ والتعداد العام هو آخر شكل سياسي يمكن أن يعترف بالملكية الخاصة.

إلا أنه مع النفي السياسي للملكية الخاصة لا ينتفي إلغاء الملكية الخاصة فقط وإنما يصبح شرطا. تلغي الدولة فرق الأصل والمكانة الاجتماعية والمهنة بطريقتها حين تقرر أن الأصل والمكانة الاجتماعية و المهنة هي فوارق غير سياسية، وحين تعلن دون مراعاة لهذه الفوارق عن كون كل فرد من أفراد الشعب مشاركا متساوي في السيادة الشعبية إذا ما تعامل مع جميع عناصر حياة الشعب الحقيقية من وجهة نظر الدولة. ومع ذلك تترك الدولة الملكية الخاصة والتأهيل والعمل تؤثر على طريقتها الخاصة، هذا يعني كملكية خاصة وتأهيل وعمل، مؤكدة طبيعتها الخاصة. إنها بعيدة كل البعد عن إلغاء هذه الفوارق، بل أنها توجد فقط في ظل هذه الشروط، وتشعر أنها دولة سياسية وتجعل عموميتها نافذة في مواجهة عناصرها هذه. ومن هنا فإن هيغل يحدد العلاقة بين الدولة السياسية والدين تحديدا صحيحا تاما حين يقول:

« كي تقوم الدولة كواقع واع وأخلاقي للعقل، فإِنه من الضروري تمايزها عن شكل السلطة والعقيدة. ولكن هذا التمايز لا يظهر إلا بمقدار ما تقوم به الكنيسة من جانبها بالفصل. هكذا فقط اكتسبت الدولة بوقوفها فوق الكنائس الخاصة شمولية الفكر ومبدأ شكلها الذي تظهره للوجود. » (هيغل" فلسفة الحق" الطبعة الأولى، ص 346).

حقا تتشكل الدولة هكذا فقط مرتفعة فوق العناصر الخاصة كمؤسسة للمجموع.

الدولة السياسية المكتملة طبقا لطبيعتها هي حياة النوع الإنساني على العكس من حياته المادية. فجميع الشروط لهذه الحياة الأنانية تبقى موجودة في المجتمع البورجوازي خارج مجال الدولة، ولكن كخصائص لهذا المجتمع. فحيثما بلغت الدولة نموها الحقيقي يعيث الإنسان حياة ْمزدوجة ليس فقط في الفكر أو الوعي وإنما في الواقع، في الحياة، حياة سماوية و أخرى أرضية، الحياة في المجتمع السياسي حيث يعتبر نفسه كائنا عاما و الحياة في المجتمع البورجوازي، حيث يمارس حياته الخاصة، ويعتبر الآخرين وسيلة، ويتحول نفسه إلى وسيلة ولعبة في أيدي قوى غريبة. و تقف الدولة السياسية إزاء المجتمع البورجوازي بمثل روحانية السماء إزاء الأرض. إنها تقف في نفس التناقض معه وتتغلب عليه بنفس الطريقة التي يتغلب بها الدين على محدودية العالم الدنيوي. هذا يعني بأن تعترف به أيضا، تنشئه، وتصبح خاضعة له. الإنسان في واقعه الأكثر مباشرة في المجتمع البورجوازي هو كائن دنيوي. هنا حيا يعتبر بالنسبة لذاته و للآخرين فردا يكون ظاهرة غير حقيقية. وعلى العكس في الدولة حيث يعتبر الإنسان نوعا يكون العضو الخيالي لسيادة وهمية، وتسرق منه حياته الفردية الحقيقية وتملأ بجماعية غير واقعية.

إن الصراع الذي يجد الإنسان نفسه فيه كمعتنق لدين خاص ومواطن لدولة مع الناس الآخرين كأعضاء في المجتمع، يتقلص إلى الانشطار الدنيوي بين الدولة السياسية والمجتمع المدني. « فالحياة في ظل الدولة بالنسبة للإنسان البورجوازي [هنا بمعنى عضو من المجتمع المدني، الحياة الخاصة] هي مجرد مظهر أو استثناء مؤقت يتعارض مع الجوهر و القواعد. »
حقا أن البورجوازي يبقى في حياة الدولة مثل اليهودي بصورة سفسطائية، كما يبقى المواطن بصورة سفسطائية يهوديا أو بورجوازيا. لكن هذه السفسطة ليست شخصية. إنها سفسطة الدولة السياسية نفسها. الفرق بين الإنسان المتدين والمواطن هو الفرق بين التاجر وبين المواطن، بين العامل بأجر يومي والمواطن، بين المالك العقاري والمواطن، بين الفرد الحي و المواطن. والتناقض الذي يقوم بين الإنسان المتدين والإنسان السياسي هو التناقض نفسه الذي يقوم بين البورجوازي والمواطن، بين عضو المجتمع البورجوازي وجلد الأسد السياسي الذي يرتديه.

هذا النزاع الدنيوي الذي تنحصر فيه المسألة اليهودية في الآخر،علاقة الدولة السياسية بشروطها، سواء كانت هذه عناصر مادية مثل الملكية الخاصة وما إلى ذلك، أو فكرية مثل التعليم والدين، الصراع بين المصالح العامة والمصلحة الخاصة، الانشطار بين الدولة السياسية و المجتمع البورجوازي، يترك باور هذه التناقضات الدنيوية قائمة، بينما يطعن في التعبير الديني عنها.

« إن أساسها بالذات، الحاجة التي تؤمّن للمجتمع المدني بقاءه وتضمن ضرورته، يعرض وجوده لخطر دائم، ويغذي في داخله عنصرا غير مأمون، و يأتي بذلك الخليط المتناوب من الفقر والغنى، من العوز والازدهار و بشكل عام التغير. » (ص 8)

يقارن المرء مقطع « المجتمع المدني » بكامله (ص 8-9) ، والذي صيغ وفق الملامح الأساسية لفلسفة الحق لدى هيغل. يعترف بالمجتمع المدني في تناقضه مع الدولة السياسية كضرورة، لأن الدولة السياسية معترف بها كضرورة.

التحرر السياسي خطوة تقدمية كبير حقا، ورغم أنها ليست الشكل الأخير للتحرر الإنساني بشكل عام لكنها الشكل الأخير للتحرر الإنساني ضمن النظام العالي القائم حتى الآن. نحن نتحدث هنا بالطبع عن التحرر الحقيقي، العملي.

يتحرر الإنسان سياسيا من الدين بإِقصائه من الحق العام إلى الحق الخاص. إنه لا يعود روح الدولة، حيث يتصرف الإنسان – ولو بطريقة محدودة وضمن شكل خاص وفي مجال خاص – ككائن نوعي، بالاشتراك مع الناس الآخرين، و إنما يكون قد أصبح روح المجتمع البورجوازي ومجال الأنانية وحدب الجميع ضد الجميع. إنه لم يعد جوهر المجموع وإنما جوهر الاختلاف. و أصبح تعبيرا عن انفصال الإنسان عن طبيعته الاجتماعية، بينه وبين الناس الآخرين – وهو ما كانه في الأصل. إنه لم يعد سوى الاعتراف المجرد بالخطأ الخاص والنزوة الشخصية والاعتباطية. أن التشظي اللانهائي للدين في أميركا الشمالية مثلا يعطيه ظاهريا شكل قضية خاصة محضة. لقد ألقي به في عداد الاهتمامات الخاصة وهجر كموضوع عام من قبل الجماعة. و لكن لا ينبغي أن يعترينا الوهم بشأن حدود التحرر السياسي. إن انشطار الإنسان إلى إنسان عام وآخر خاص ونقل الدين من الدولة إلى المجتمع البورجوازي، ليسا مرحلة وإنما هما اكتمال التحرر السياسي الذي لا يلغي التدين الحقيقي للإنسان كما لا يسعى لإلغائه.

أن تفكيك الإنسان إلى يهودي ومواطن، إلى بروتستانتي ومواطن، إلى إنسان متدين ومواطن، هذا التفكيك ليس كذبة ضد المواطن، ولا التفافا على التحرر السياسي، إنه التحرر السياسي نفسه. إنه الطريقة السياسية للتحرر من الدين. تستطيع الدولة بلا شك ويتوجب عليها في الفترات التي تولد فيها الدولة السياسية من المجتمع البورجوازي بالقوة ويسعى التحرر البشري أن يحقق نفسه في صورة التحرر السياسي، أن تمضي حتى إلغاء الدين، حتى القضاء على الدين، ولكن تمضي على هذا النحو فقط إلى أبعد حد كما تفعل لإلغاء الملكية الخاصة، إلى المصادرة، إلى الضرائب التصاعدية، كما تمضي إلى إلغاء الحياة، إلى المقصلة. وفي اللحظات الخاصة من إحساسها بذاتها تبحث الحياة السياسية عن شروطها، فتحاول سحق المجتمع البورجوازي و عناصره لتقيم نفسها كحياة للنوع الإنساني، حقيقية وخالية من التناقض. إنها تستطيع هذا فقط من خلال تناقض عنيف مع شروط حياتها الخاصة، فقط بأن تعلن أن الثورة مستديمة فتنتهي المأساة السياسية من هنا بالضرورة كذلك بإِعادة الدين والملكية الخاصة وجميع عناصر المجتمع البورجوازي، كما تنتهي الحرب بالسلام.

أجل، ليست الدولة المسماة مسيحية، التي تعترف بالمسيحية كأساس لها و كدين للدولة وتميز نفسها بهذا عن الديانات الأخرى هي الدولة المسيحية الكاملة، وإنما الدولة الملحدة، الدولة الديمقراطية، الدولة التي تضع الدين ضمن باقي عناصر المجتمع البورجوازي. لم تنجح بعد الدولة التي لا تزال لاهوتية والتي تقر باعتناق المسيحية بصورة رسمية، التي لا تجرؤ بعد على إعلان نفسها كدولة، لم تنجح هذه الدولة بعد في التعبير عن الأساس البشري في شكل دنيوي بشري، تكوك المسيحية التعبير الدافق عنه. إن ما يسمى بالدولة المسيحية هو ببساطة اللادولة، إذ لا تستطيع المسيحية كدين وإنما الخلفية البشرية للدين المسيحي فقط أن تطرح نفسها في إبداعات إنسانية حقيقية.

إن ما يسمى بالدولة المسيحية إنما هو النفي المسيحي للدولة، ولكنه ليس تحقيقا للمسيحية من قبل الدولة بأي حال من الأحوال. الدولة التي لا تزال تقر بالمسيحية على شكل دين، لا تقر بها على شكل دولة، فهي لا تسلك سلوكا متدينا إزاء الدين، هذا يعني إنها ليس التحقيق الفعلي للأساس الإنساني، لأنها لا تزال تقود إلى الوهم، إلى الهيئة الخيالية لهذه النواة الإنسانية. إن ما يسمى بالدولة المسيحية هو الدولة غير المكتملة، والدين بالنسبة لها تكملة وعلاج لنقصها. من هنا يصبح الدين بالنسبة لها بالضرورة وسيلة، وهي دولة النفاق. إنه لفرق كبير فيما إذا اعتبرت الدولة المكتملة الدين ضمن شروطها بسبب نقص يكمن في الطبيعة العامة للدولة، أو أعلنت الدولة غير الكاملة بسبب النقص الذي يكمن في وجودها الخاص كدولة ناقصة الدين كأساس لها. ويصبح الدين في الحالة الأخيرة سياسة غير كاملة. وفي الحالة الأولى يظهر نقص السياسة الكاملة في الدين. يحتاج ما يسمى بالدولة المسيحية إلى الدين المسيحي ليكتمل كدولة.

أما الدولة الديمقراطية، الدولة الحقيقية فهي لا تحتاج إلى الدين من أجل اكتمالها السياسي. وأكثر من ذلك فهي تستطيع أن تطرح جوانب كثيرة من الدين لأن الأساس الإنساني للدين متحقق فيها بطريقة دنيوية. وعلى العكس يقف ما يسمى بالدولة المسيحية موقفا سياسيا إزاء الدين ودينيا إزاء السياسة. وحين تحط هذه الدولة من الأشكال السياسية ظاهريا فإِنها تحط من الدين ظاهريا بنفس القدر.

لنتفحص من أجل توضيح هذا التناقض البناء الذي يطرحه باور للدولة المسيحية، وهو بناء منبثق عن دراسة الدولة المسيحية الجرمانية.

يقول باور « من أجل إثبات عدم إمكانية أو عدم وجود الدولة المسيحية نبه المرء أكثر من مرة مؤخرا إلى أقوال الإنجيل، تلك التي لا تمتنع الدولة عن العمل بها وحسب وإنما لا تستطيع حتى العمل بها إذا لم تحل نفسها نهائيا. »

لكن الأمر ليس بهذه السهولة. فبم تطالب تلك الأقوال الإنجيلية ؟ إنكار الذات فوق الطبيعي، خضوع لسلطة الوحي، العزوف عن الدولة، إلغاء العلاقات الدنيوية. إلا أن هذا كله هو ما تطالب به و تحققه الدولة المسيحية. لقد تمثلت روح الإنجيل، وإذا كانت لا تعكسها بنفس الحروف التي يعبر بها الإنجيل عنها فإِن ذلك ناتج عن أن الدولة تعبر عن هذه الروح بأشكال سياسية، هذا يعني بأشكال مستمدة من كيان الدولة في هذا العالم حقا، ولكنها في انبعاثها الديني الذي كان عليها أن تمر به اختصرت إلى مظهر وحسب. إنه العزوف عن الدولة مستخدما من أجل تحققه أشكال الدولة. (ص55)

يتابع باور شرح كيف أن شعب الدولة المسيحية ليس شعبا، فهو لم يعد يملك إرادة خاصة به ويكمن وجود الحقيقي في الرئيس الذي يخضع له، والذي هو في الأصل وبناء على طبيعته غريب عنه، هذا يعني أنه معطى من الله، وقد جاء إليه دون تدخل منه، كيف أن قوانين هذا الشعب ليست من عمله الخاص و إنما هي وحي ايجابي، وكيف يحتاج الرئيس إلى وسطاء متميزين بينه وبين الشعب الفعلي، الجماهير، وكيف تتفتت هذه الجماهير نفسها إلى دوائر خاصة تشكلها وتتحكم فيها الصدفة، وهي تختلف في مصالحها وأهوائها الخاصة وأحكامها المسبقة وتحصل على جواز الانفصال عن بعضها كامتياز،الخ. (ص 56)

وحده باور يقول بنفسه:

« لا يجوز للسياسة أن تكون سياسة إذا توجب عليها ألا تكون سوى دين، كما لا يجوز أن يكون غسل قدور الطبخ مسألة اقتصادية، إذا ما تعين اعتبارها شأنا دينيا. » (ص 108)

لكن الدين في الدولة الجرمانية المسيحية هو "مسألة اقتصادية"، كما أن "المسألة الاقتصادية" دين. فسلطة الدين في الدولة المسيحية الجرمانية هي دين السلطة.

فصل "روح الإنجيل" عن "حروف الإنجيل" هو عمل مناف للدين. والدولة التي تدع الإنجيل يتحدث بحروف السياسة، بحروف أخرى غير حروف الروح القدس، ترتكب خرقا للدين إن لم يكن في نظر الناس فمن وجهة نظرتها الدينية الخاصة. يجب مواجهة الدولة التي تعتبر المسيحية قانونها الأعلى و الكتاب المقدس ميثاقها بكلمات الكتاب المقدس، فالكتاب مقدس حتى الكلمة. تقع هذه الدولة كما هو الحال بالنسبة للنفايات البشرية التي تشكل قاعدتها في تناقض مؤلم لا يمكن حله من منظور الوعي الديني حين يِحيلها المرء إلى أقوال الإنجيل التي « لا تهمل اتباعها فقط وإنما لا تستطيع حتى اتباعها إذا لم تشأ أن تحل نفسها كدولة كليا. » ولم لا تريد أن تحل نفسها كليا ؟ لا هي نفسها ولا أحد آخر يستطيع الإجابة عن هذا لسؤال. الدولة المسيحية الرسمية أمام وعيها الخاص واجب لا يمكن حقيقه و هي تثبت حقيقة وجودها بالكذب على نفسها ومن هنا تبقى دائما موضوعا مشكوكا فيه، غير موثوق به ومعضلا. وهكذا فإن النقد على حق تماما حين يرغم الدولة التي تستند إلى الكتاب المقدس على زحزحة وعيها، حيث لا تعرف هي نفسها ما إذا كانت وهما أم واقعا، وحيث تقع دناءة أغراضها الدنيوية التي تتخذ من الدين ستارا لها في تناقض لا حل له مع نزاهة وعيها الديني الذي يبدو له الدين غاية العالم. لا تستطيع هذه الدولة أن تخلص نفسها من عذابها الداخلي إلا حين تصبح خادما طاغي للكنيسة الكاثوليكية، وإزاء هذه الكنيسة التي تعلن أن السلطة الدنيوية هي الجسد الذي يخدمها، فإن الدولة لا حول لها، لا حول للسلطة الدنيوية التي تدعي سيادة الروح الديني.

ليس الإنسان هو المهم في ما يسمى بالدولة المسيحية وإنما الاغتراب. والإنسان الوحيد المهم وهو الملك، يختلف عن الناس الآخرين، وهو في ذلك كائن متدين يرتبط بالسماء وبالله مباشرة. إن العلاقات التي تسود هنا لا تزال علاقات قائمة على الإيمان، فالروح الديني لم يصبح بعد دنيويا حقا.

و لكن الروح الديني لا يمكن أن يصبح دنيويا حق، فأي شيء يكون هو نفسه إن لم يكن الشكل غير الدنيوي لمرحلة تطور العقل البشري ؟ يمكن للروح الديني أن يتحقق بقدر ما تبرز درجة تطور العقل البشري، والذي هو تعبير عنها، وتنشأ في شكلها الدنيوي. وهذا يحدث في الدولة الديمقراطية. ليست المسيحية وإنما الأساس الإنساني للمسيحية هو أساس هذه الدولة. يبقى الدين هو الوعي المثالي غير الدنيوي لأعضائها، لأنه الشكل الأمثل لدرجة التطور البشري التي تتحقق فيه.

إن أعضاء الدولة السياسية متدينون من خلال الثنائية القائمة بين الحياة ْالفردية وحياة النوع، بين حياة المجتمع البورجوازي والحياة السياسية، متدينون حيث يعتبر الإنسان حياة الدولة في الطرف الآخر من فرديته الحقيقية، حياته الحقيقية، متدين بقدر ما يكوك الدين هنا روح المجتمع البورجوازي وتعبير عن الفصل وابتعاد الإنسان عن الإنسان. الديمقراطية السياسية مسيحية حيث لا يعتبر الإنسان فيها إنسانا واحدا و حسب وإنما يكون كل إنسان كائنا مستقلا أسمى، لكن الإنسان في مظهره اللامتحضر واللااجتماعي، في وجوده بالصدفة، الإنسان كما هو، الإنسان كما أفسده كل تنظيم مجتمعنا، أضاع ذاته، بيع، ووضع تحت سيطرته عناصر ظروف غير إنسانية، بكلمة واحدة، الإنسان الذيِ لم يصبح بعد كائنا نوعيا حق. إن الصورة الخيالية، الحلم، مسلمات المسيحية، استقلال الإنسان، و لكن كغريب، ككائن يختلف عن الإنسان الحقيقي كل ذلك في الديمقراطية حقيقة ملموسة، حاضر وقاعدة دنيوية.

يبدو الوعي الديني واللاهوتي لنفسه في الديمقراطية الكاملة أكثر تدينا و لاهوتية مما هو كحياة آخرة، حين لا يكون له معنى سياسي وأغراض أرضية و يكون شأنا من شؤون المشاعر المتهيبة أمام ما هو دنيوي، وتعبيرا عن محدودِة الفهم، ونتاج الهوى والخيال. تبلغ المسيحية هنا التعبير العملي لمعناها الديني الشامل حيث تتجمع مختلف الرؤى الفلسفية إلى جانب بعضها في صيغة المسيحية، وتتعزز أكثر من خلال عدم مطالبتها الآخر أن يكون مسيحيا وإنما أن يعتنق دينا ما فقط (قارن عمل بومون المذكور). إن الوعي الديني ينعم بثراء التناقض الديني وتنوعه.

و هكذا فقد أظهرنا أن التحرر السياسي من الدين يدع الدين قائما ولكن دون امتيازات. إن التناقض الذي يجد تابع دين معين نفسه فيه مع كونه مواطن دولة ما هو إلا جزء فقط من التناقض الدنيوي العام بين الدولة السياسية والمجتمع البورجوازي. واكتمال الدولة المسيحية هو الدولة التي تقر بكونها دولة وتنفصل عن دين أعضائها. وتحرر الدولة من الدين ليس هو تحرر الإنسان الحقيقي من الدين.

و هكذا فإننا لا نقول لليهود مع باور: لا يمكنكم أن تتحرروا سياسيا دون أن تتحرروا جذريا من اليهودية. بل إننا نقول لهم أكثر من ذلك: لأنكم تستطيعون أن تتحرروا سياسيا دون أن تنفكوا نهائيا ودون تناقضات عن اليهودية، لذلك فإِن التحرر السياسي نفسه ليس التحرر الإنساني. إذا أردتم أيها اليهود أن تتحرروا سياسيا، دون أن تحرروا أنفسكم إنسانيا، فإِن النقص والتناقض لا يكمن فيكم فقط وإنا يكمن في جوهر وفي مصطلح التحرر السياسي، إذا كنتم تشعرون بالارتباك من هذا المصطلح فإنكم تشاركون في ارتباك عام. وكما تكون الدولة إنجيلية رغم أنها دولة و تتصرف كدولة مسيحية إزاء اليهودي، فإِن اليهودي يتسيس، رغم أنه يهودي و يطاب بحقوق المواطنة.

و لكن إذا استطاع الإنسان أن يتحرر سياسيا، حتى لو كان يهوديا، ويحصل على حقوق المواطنة، فهل يستطيع أن يطالب بما يسمى حقوق الإنسان و يتمتع بها ؟ ينكر باور هذا.

« المسألة هي ما إذا كان اليهودي كيهودي، بمعنى، اليهودي الذي يقر نفسه أنه مرغم بسبب جوهره الحقيقي أن يعيث منفصلا عن الآخرين إلى الأبد، قادرا على تلقي حقوق الإنسان العامة والإقرار بها للآخرين. »

« لم تكتشف فكرة حقوق الإنسان في العالم المسيحي إلا في القرن الماضي. لا يملكها الإنسان بالولادة، بل إنها تنتزع في الكفاح ضد التقاليد التاريخية التي نشأ عليها الإنسان حتى الآن. وهكذا فحقوق الإنسان ليسا منحة من الطبيعة، وليست صداق التاريخ المنصرم وإنما هي ثمن كفاح ضد صدفة الميلاد وضد الامتيازات التي أورثها التاريخ من جيل إلى جيل حتى الآن. وهي نتيجة للتعليم ولا يستطيع أن يملكها إلا من اكتسبها و استحقها. »

« هل يستطيع اليهودي إذن أن يمتلكها فعلا ؟ إنه ما دام يهوديا فإن الجوهر المحدود الذي يجعل منه يهوديا ينتصر حتما على الجوهر الإنساني الذي يفترض فيه أن يربطه كإِنسان بالبشر الآخرين، ويفصله عن غير اليهود. إنه يعلن من خلال هذا التمايز أن الطبيعة المتميزة التي تجعل منه يهوديا هي جوهره الحقيقي الأعلى الذي ينبغي أن يتراجع أمامه جوهر الإنسان. »

« و بنفس الطريقة لا يستطيع المسيحي أن يكفل حقوق الإنسان كمسيحي. » (ص 19-20)

على الإنسان، كما يرى باور، أن يضحي بـ "امتياز العقيدة" ليستطيع تلقي حقوق الإنسان العامة. فلنتأمل لحظة ما يسمى بحقوق الإنسان في شكلها لدى مكتشفيه الأميركيين الشماليين والفرنسيين. هذه الحقوق هي حقوق سياسية في جزء منه، حقوق لا يمكن ممارستها إلا ضمن الجماعة. فالمشاركة في الجماعة تشكل محتواها، وبالذات في الجماعة السياسية، في الدولة. فهي تندرج تحت مصطلح الحرية السياسية، تحت مصطلح الحقوق المدنية التي لا تشترط بأي حال من الأحوال إلغاء الدين الايجابي والخالي من التناقضات كما رأينا، كذلك أيضا الدين اليهودي. يبقى علينا تأمل القسم الآخر من حقوق الإنسان بالقدر الذي تختلف فيه عن حقوق المواطنة.

تدخل في إطارها حرية الضمير، حق ممارسة العبادة التي يريدها المرء. و يعترف بامتياز العقيدة بصورة مؤكدة إما كحق من حقوق الإنسان أو كتبعة لحق من حقوق الإنسان هو الحرية.

« لا ينبغي أن يضايق أي إنسان بسبب قناعاته، بما فيها الدينية. » (إعلان حقوق الإنسان 1791، المادة العاشرة)

و قد كفل دستور عام 1791 في الباب الأول:

« حرية كل فرد في ممارسة العبادة التي ينتسب إليها، كحق من حقوق الإنسان. »

و يورد إعلان حقوق الإنسان لعام 1793، المادة السابعة، "حرية ممارسة العبادات." وجاء في سياق حق الإنسان في نشر أفكاره وآرائه وعقد الاجتماعات وممارسة العبادة « إن ضرورة إعلان هذه الحقوق تفترض وجود الاستبداد أو ذكراه القريبة. » قارن دستور عام 1795، الباب الثاني عشر، المادة 354. دستور بنسلفانيا، المادة التاسعة، الفقرة الثالثة:

« لقد تلقى جميع الناس الحق الحتمي من الطبيعة في الصلاة لله القدير متبعين وحي ضميرهم، و لا يمكن أن يرغم أحد بحكم القانون أن يقر بأي عبادة أو إله، أو يمارسها أو يساندها خلافا لرغبته. ولا يجوز في أي حال من الأحوال أن تتدخل أي سلطة بشرية في قضايا الضمير وتسيطر على قوى الروح. »

دستور نيوهامبشاير، المادة التاسعة، الفقرة الثالثة:

يوجد في الحقوق الطبيعية بعضٌ لا يمكن التخلي عنه بحكم طبيعته، لأنه لا يمكن تعويضه بما يعادل قيمته. وضمن هذا البعض تندرج حقوق الضمير. (بومون، ص 213-214).

لا تكاد استحالة التوفيق بين الدين وحقوق الإنسان تكمن في مصطلح حقوق الإنسان، بل أن حق المرء في أن يكون متدين، متدينا بالطريقة التي يريدها، وأن يمارس عبادات ديانته الخاصة، عد بوضوح ضمن حقوق الإنسان. إن امتياز العقيدة هو حق عام من حقوق الإنسان.

لقد جرى التمييز بين حقوق الإنسان وحقوق المواطنة، فمن هو الإنسان المتميز عن المواطن ؟ لا أحد سوى عضو المجتمع البورجوازي. ولماذا يصبح عضو المجتمع البورجوازي هذا إنسانا، مجرد إنسان، ولماذا تسمى حقوقه حقوق الإنسان ؟ بم نفسرهذا الواقع ؟ من خلال علاقة الدولة السياسية بالمجتمع البورجوازي، من خلال جوهر التحرر السياسي.

نثبت قبل كل شيء أن ما يسمى بحقوق الإنسان، وهي خلاف حقوق المواطن، ليست سوى حقوق أعضاء المجتمع البورجوازي، هذا يعني الإنسان الأناني، الإنسان المنفصل عن الناس وعن المجموع. ينبغي على الدستور الأكثر جذرية، دستور 1793 أن يقول:

« إعلان حقوق الإنسان وحقوق المواطن. » المادة الثانية: « هذه الحقوق (الحقوق الطبيعية والحتمية) هي: المساواة، الحرية، الأمن، الملكية. »

فيم تتمثل الحرية ؟

المادة 6 « الحرية هي حق الإنسان في أن يفعل كل شيء لا يضر بحقوق الآخرين » أو حسب "إعلان حقوق الإنسان لعام 1791":« تتمثل الحرية في الحق في فعل كل ما لا يضر الآخرين. »

الحرية هي إذن الحق في فعل كل شيء لا يضر بالآخرين. أما الحدود التي يستطيع كل فرد أن يتحرك فيها دون أن يضر بالآخرين فيحددها القانون كما يرسم وتد السور الحدود بين حقلين يتعلق الأمر بحرية الإنسان كوحدة معزولة منطوية على ذاتها. لماذا لا يستطيع اليهودي، حسب رأى باور، تلقي حقوق الإنسان ؟

« ما دام يهوديا يكون على الجوهر المحدود الذي يجعل منه يهوديا أن ينتصر على الكيان البشري، وهو ما يفترض أنه يربطه كإِنسان بالبشر، و يفصله عن غير اليهود. »

و لكن حق الإنسان في الحرية لا يستند إلى ارتباط الإنسان بالإنسان بل بالأحرى إلى انفصال الإنسان عن الإنسان. إنه حق هذا الانفصال، حق المحدودية، محدودية الفرد بذاته.

إن الاستخدام العملي لحق الإنسان في الحرية هو حق الإنسان في الملكية الخاصة.

أين يقوم حق الإنسان في الملكية الخاصة ؟

المادة 16 (دستور 1793): « حق الملكية هو حق كل مواطن أن يتمتع كما يريد بممتلكاته، ومدخولاته وبثمار عمله واجتهاده و يتصرف بها. »

و إذن فحق الإنسان في الملكية الخاصة هو حقه في أن يستمتع ويتصرف بثروته كما يريد، دون مراعاة الناس الآخرين، وبصورة مستقلة عن المجتمع، حق المنفعة الذاتية. تلك الحرية الفردية، و هذا الاستخدام لها، يشكلان أساس المجتمع البورجوازي. إنها تترك لكل إنسان أن يجد في الإنسان الآخر حدود حريته وليس تحقيقها. إنها تعلن قبل كل شيء حق الإنسان في

« أن يتمتع كما يريد بممتلكاته، ومدخولاته و بثمار عمله واجتهاده ويتصرف بها. »

تبقى حقوق الإنسان الأخرى، المساواة والأمن.

المساواة هنا هي بمعناها غير السياسي ليست سوى المساواة في الحرية التي سبق وصفها، ألا وهي: أن ينظر إلى كل إنسان بصورة متساوية كوحدة قائمة بذاتها. يحدد دستور 1795 مصطلح هذه المساواة بما يناسب معناها في:

المادة 3 (دستور 1795) تتمثل المساواة في أن ينطبق نفس القانون على الجميع، سواء حين يحمي أو يعاقب.

و الأمن ؟

المادة 8 (دستور 1793): « يتمثل الأمن في الحماية التي يكفلها المجتمع لكل عضو من أعضائه لحفظ شخصه وحقوقه وملكيته. »

الأمن هو أعلى مفهوم للمجتمع البورجوازي، مفهوم الشرطة، أن المجتمع بأكله موجود فقط ليكفل لكل من أعضائه المحافظة على شخصه وحقوقه و ملكيته. يسمي هيغل المجتمع البورجوازي بهذا المعنى: "دولة الحاجة والعقل."

لا يرتقي المجتمع البورجوازي من خلال مفهوم الأمن فوق أنانيته. فالأمن هو بالأحرى ضمان أنانيته.

و إذن فلا يتجاوز أيٌ مما يسمى حقوق الإنسان الإنسان الأناني، فالإنسان كعضو في المجتمع البورجوازي، منطو على نفسه وعلى مصالحه الخاصة و رغباته الخاصة، وفرد منفصل عن المجموع. ما أبعد أن يكون الإنسان قد اعتبر فيها كائنا نوعيا بل تبدو حياة النوع نفسها، المجتمع، كإطار خارجي للأفراد وتقييد لاستقلالهم الأصلي. والرابطة الوحيدة التي تمسك بها هي الضرورة الطبيعية، الحاجة والمصلحة الخاصة، أي حفظ ملكيتهم و شخصهم الأناني.

إنه لمن الملغز أن شعبا قد بدأ توا بتحرير نفسه وهدم جميع الحواجز بين أعضاء الشعب المختلفين وتأسيس جماعة سياسية، أن مثل هذا الشعب يعلن محتفلا، مشروعيةَ الإنسان الأناني المفصول عن الناس وعن المجموعة. (إعلان 1791) بل ويعيد هذا الإعلان في لحظة لا يستطيع أن ينقذ الأمة فيها إلا العطاء البطولي، ومن هنا يكون مطلوبا بالضرورة في لحظة يتوجب فيها أن تصبح التضحية بجميع مصالح المجتمع البورجوازي أمرا معمولا به و يعاقب فيها على الأنانية كجريمة (إعلان حقوق الإنسان 1793) وتصبح هذه الواقعة أكثر إبهاما حين نرى أن المواطنة، أن المجموعة السياسية تنحدر من التحرر السياسي وتصبح مجرد وسيلة للمحافظة على ما يسمى بحقوق الإنسان هذه، أي أن المواطن يصبح خادما للإنسان الأناني، وأن المجال الذي يسلك فيه الإنسان ككائن اجتماعي يتدنى تحت المجال الذي يسلك فيه كجزء، وأخيرا يصبح الإنسان الحقيقي في الواقع ليس الإنسان كمواطن ولكن الإنسان كبرجوازي.

هدف جميع الاتحادات السياسية هو المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية و الحتمية. (إعلان الحقوق، 1791، المادة الثانية)

« تعين الحكومة لتكفل للإنسان التمتع بحقوقه الطبيعية والحتمية. » (إعلان 1973، المادة الأولى)

و هكذا تعلن الحياة السياسية، حتى في لحظات حماسها الفتي الذيِ دفعه ضغط الأوضاع إلى الذروة، أنها مجرد وسيلة هدفها حياة المجتمع البورجوازي. حقا يتناقض عملها الثوري تناقضا واضحا مع نظريتها. فبينما يعلن الأمن كحق من حقوق الإنسان على سبيل المثال، فإن سرية المراسلة تخرق علنا كل يوم، وبينما تكون « الحرية غير المحدودة للصحافة » مضمونة (دستور 1793،المادة 122) كنتيجة لحق الإنسان في الحرية الفردية، يُقضى على حرية الصحافة قضاء تاما، إذ أنه لا يجوز استخدام حرية الصحافة إذا كانت تمس الحرية العامة (روبيسبير الشاب "تاريخ برلمان الثورة الفرنسية" بقلم روشيز ورو، الجزء 28، ص 109) وهكذا فهذا يعني أن حق الإنسان في الحرية ينتفي حالما يدخل في نزاع مع الحياة السياسية، بينما الحياة السياسية طبقا للنظرية هي الضمان لحقوق الإنسان وحسب، أي حقوق الإنسان الفرد، يجب أن يُتخلى عنها حالما تتناقض مع غايته التي هي حقوق الإنسان. غير أن التطبيق هو الاستثناء وحسب، والنظرية هي القاعدة. ولكن إذا أراد المرء أن يعتبر التطبيق الثوري هو الوضع الصحيح فإِنه يبقى علينا حل اللغز: لماذا تقلب الأوضاع رأسا على عقب في وعي المحرريِن السياسيين فتبدو الغاية وسيلة والوسيلة غاية. لا يزال خداع وعيهم البصري هذا نفس اللغز مع أنه لغز نفسي ونظري.

إن حل هذا اللغز بسيط.

التحرر السياسي هو في نفس الوقت انحلال المجتمع القديم الذي يستند إليه كيان الدولة الغريب عن الشعب، سلطة الحكام. الثورة السياسية هي ثورة المجتمع البورجوازي. ماذا كان طابع المجتمع القديم ؟ كلمة واحدة ترسم ملامحه: الإقطاع. كان للمجتمع البورجوازي القديم طابع سياسي مباشر، هذا يعني أن عناصر الحياة البورجوازية كالملكية والعائلة أو أسلوب العمل ارتقت في شكل الإمارة، المكانة الاجتماعية والنقابة وأصبحت عناصر حياة الدولة. وتقررت علاقة الفرد بالدولة ككل على هذه الصورة، هذا يعني علاقته السياسية، بمعنى علاقته وانفصاله عن مكونات المجتمع الأخرى. فذلك التنظيم لحياة الشعب لم يرفع الملكية أو العمل إلى مستوى العناصر الاجتماعية، بل أنه أتم انفصالها عن الدولة ككل وأنشأ منها مجتمعات خاصة داخل المجتمع. وهكذا بقيت وظائف حياة وظروف المجتمع البورجوازي سياسية، و إن كانت سياسية بما يلائم الإقطاع، هذا يعني أنها فصلت الفرد عن الدولة ككل وحولت العلاقة الخاصة لنقابته بالدولة ككل إلى علاقته الشخصية العامة بحياة الشعب، كما حولت عمله ووضعه البورجوازي المحددين إلى عمل ووضع عام. وكنتيجة لهذا التنظيم تبدو وحدة الدولة كذلك بالضرورة، كما يبدو الوعي والإرادة وعمل وحدة الدولة وسلطة الدولة العامة، كشأن خاص لحاكم معزول عن الشعب ولخدمه.

إن الثورة السياسية التي أسقطت هذه السلطة وجعلت شؤون الدولة شؤون الشعب، والتي أقامت الدولة السياسية كشأن عام، أي كدولة حقيقية، حطت بالضرورة جميع الطبقات والطوائف المهنية والنقابات و الامتيازات وكذلك التعبيرات الكثيرة عن الفصل بين الشعب وكيانه العام. ألغت الثورة السياسية بذلك الطابع السياسي للمجتمع البورجوازي. لقد فتت المجتمع البورجوازي إلى مكوناته البسيطة،إلى الأفراد من ناحية، والعناصر المادية والروحية التي تشكل معنى الحياة والوضع البورجوازي لهؤلاء الأفراد من ناحية أخرى. إنها تعتق العقل السياسي الذي تجزأ وتفكك واندلق في الطرق المغلقة المختلفة للمجتمع الإقطاعي بصورة واحدة، لقد جمعته من هذا الشتات وحررته من اختلاطه بالحياة البورجوازية وشكلته كبيئة للكيان العام، للشعبي العام في استقلال مثالي عن تلك العناصر الخاصة للحياة البورجوازية. انخفضت مكانة المهنة المحددة والوضع الحياتي المحدد ولم يعد لهما سوى معنى فردي. لم يعودا يشكلان العلاقة العامة للفرد بالدولة ككل. بل أصبح الشأن العام بحد ذاته شأنا عاما لكل فرد و أصبحت الوظيفة السياسية وظيفته العامهَ.

كان اكتمال مثالية الدولة وحده اكتمال مادية المجتمع البورجوازي في نفس الوقت. وكان التخلص من النير السياسي تخلصا من الأغلال التي قيدت العقل الأناني للمجتمع البورجوازي في نفس الوقت. كان التحرر السياسي هو تحرر البورجوازي من السياسة في الوقت ذاته، وحتى من مظهر كونه محتوى عاما.

كان المجتمع الإقطاعي قد انحل في أساسه في الإنسان، ولكن في الإنسان الذي هو أساسه حقا، في الإنسان الأناني.

هذا الإنسان، عضو المجتمع البورجوازي هو الآن أساس وشرط الدولة السياسية. وقد اعترف به بهذه الصفة في حقوق الإنسان.

لكن حرية الإنسان الأناني والاعتراف بهذه الحرية هي بالأحرى الاعتراف بالحركة غير المقيدة للعناصر العقلية والمادية التي تشكل محتواها.

و من هنا فإِن الإنسان لم يحرر من الدين وإنما حصل على الحرية الدينية. لم يحرر من الملكية وإنما حصل على حرية الملكية، لم يحرر من أنانية المهنة وإنا حصل على حرية المهنة.

بعمل واحد تمت إقامة الدولة السياسية وحل المجتمع البورجوازي في أفراد مستقلين عن بعضهم – يحدد القانون علاقتهم، كما كانت الامتيازات تحدد علاقات الطوائف المهنية و النقابات –. فالإنسان كعضو في المجتمع البرجوازي، الإنسان غير السياسي، يظهر بالضرورة بمثابة الإنسان الطبيعي. وتبدو حقوق الإنسان حقوقا طبيعية، حيث أن النشاط الواعي يتركز في الفعل السياسي. الإنسان الأناني هو النتيجة السلبية القائمة للمجتمع المنحل، موضوع اليقين المباشر، أي أنه شيء طبيعي. تفتت الثورة السياسية الحياة البورجوازية إلى مكوناتها دون أن تدخل الثورة إلى هذه المكونات أو تتناولها بالنقد. إنها ترى المجتمع البورجوازي وعالم الحاجات والعمل والمصالح الخاصة والحقوق الخاصة كأساسها لوجودها، كشرط لا يحتاج إلى البرهان، أي كأساسها الطبيعي. أخيرا يعتبر الإنسان، كعضو في المجتمع البورجوازي، الإنسانَ الحقيقي الذي يختلف عن المواطن لأنه الإنسان في وجوده الفردي المحسوس المباشر، بينما الإنسان السياسي هو الإنسان المجرد المصطنع فقط، الإنسان كشخص معنوي أخلاقي. ولا يتعرف على الإنسان الحقيقي إلا في هيئة الفرد الأناني، في هيئة المواطن المجرد.

يصور روسو تجريد الإنسان السياسي تصويرا صحيحا إذ يقول:

من كان يملك الشجاعة لإعطاء شعب النظام القانوني، يجب أن يشعر أنه قادر على أن يغير الطبيعة البشرية، أن يحول كل فرد يشكل بحد ذاته كلا كاملا، إلى جزء من كل أكبر يستمد منه هذا الفرد بطريقة معينة حياته ووجوده، و إحلال وجود جزئي معنوي محل الوجود الفيزيائي المستقل. عليه أن يسلب الإنسان قوته الشخصية ليعطيه بدلا منها قوة غريبة لا يستطيع أن يستخدمها إلا بمساعدة الآخرين (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، 1782، ص 67)

إن كل تحرر هو إعادة العالم البشري والعلاقات إلى الإنسان ذاته.

التحرر السياسي هو تقليص الإنسان إلى عضو في المجتمع البورجوازي، أي إلى الفرد الأناني المستقل من جهة، وإلى المواطن المعنوي من جهة أخرى.

حين يستعيد الإنسانُ، الفردُ الحقيقي المواطنَ المجردَ إلى ذاته ويكون قد أصبح كإِنسان فرد في حياته التجريبية، في عمله الفردي وعلاقاته الفردية كائنا نوعيا وحسب، حين يكون الإنسان قد تعرف على قواه الخاصة كقوى اجتماعية ونظمها، فلا تنفصل القوة الاجتماعية في هيئة قوة سياسية، عندها فقط يكون التحرر الإنساني قد تحقق.

 

-2-
« قدرة يهود ومسيحيي اليوم على التحرر »

Einundzwanzig Bogen aus der Schweiz pp.56-71
الملزمة الحادية والعشرون، ص 56-71


تحت هذه الصيغة يعالج باور [2] علاقة الدين اليهودي و المسيحي وعلاقتهما بالنقد. فعلاقتهما بالنقد هي علاقتهما « بالقدرة على أن يكونا متحررين. »

ينتج عن ذلك:

« على المسيحي أن يرتفع درجة واحدة، أن يرتقي فوق دينه، لكي يتخلى عن الدين بشكل عام »،

أي أن يصبح حرا

« أما اليهودي فليس عليه بالعكس أن ينتهي من جوهره اليهودي فقط وإنما أيضا من تطور اكتمال دينه، من تطور بقي غريبا عنه. » (ص 71)

و هكذا يحول باور مسألة تحرر اليهودي هنا إلى مسألة دينية بحتة. الشك الأخلاقي اللاهوتي في من هو الأكثر حظا في أن ينال السعادة الأبدية، اليهودي أم المسيحي، يتكرر في صيغة أكثر تنورا، أي الاثنين أكثر قدرة على التحرر ؟ لم يعد السؤال مطروحا: هل تحرر اليهودية أو المسيحية الإنسان ؟ بل العكس:ما الذي يحرر أكثر نفي اليهودية أم نفي المسيحية ؟

« إذا أراد اليهود أن يتحرروا فإِنه لا يجوز لهم أن يعتنقوا المسيحية و إنما المسيحية الملغاة، الدين الملغى بوجه عام، هذا يعني التنوير، النقد ونتائجه، الإنسانية الحرة. » (ص 70)

لا يزال الأمر متعلقا باعتناق اليهود عقيدة ما، و لكن ليس اعتناق المسيحية وإنما المسيحية الملغاة.

يطالب باور اليهود بالتخلي عن جوِهر الدين المسيحي، وهي مطالبة كما يقول هو نفسه لا تنبثق من تطور الجوهر اليهودي.

و حيث لم يدرك باور، في نهاية المسالة اليهودية، الديانة اليهودية إلا كنقد المسيحية الديني الفج لها، فلا تكتسب لديه إلا أهمية دينية، صار من الممكن التكهن في أن يتحول تحرر اليهود لديه أيضا إلى عمل فلسفي لاهوتي.

يصوغ باور الجوهر المثالي المجرد لليهودي، أي دينه كجوهر كلي له. و يستنتج وهو في ذلك على حق:

« لا يعطي اليهودي للبشرية شيئا، حين يغفل تطبيق قانونه المحدود »، حين يلغي يهوديته بأكملها. (ص 65)

تصبح العلاقة بين اليهود والمسيحيين طبقا لذلك كما يلي: المصلحة الوحيدة للمسيحي في تحرر اليهودي هي إنسانية عامة (نظرية). فاليهودية هي واقع مهين في عين المسيحي الدينية. وحالما تكف عينه عن أن تكون دينية، يكف هذا الواقع عن أن يكون مهينا. أن تحرر اليهود في حد ذاته ليس عملا يناسب المسيحي.

و على العكس فلكي يحرر اليهودي نفسه ليس عليه أن يقوم بعمله فقط وإنما أيضا بعمل المسيحي، أي نقد الأناجيل الأربعة و حياة يسوع، الخ.

« عليهم أنفسهم أن يروا: سيقررون مصيرهم بأنفسهم، فالتاريخ لا يسمح أن يسخر منه. » (ص 71)

إننا نحاول أن نحطم الصيغة اللاهوتية للمسألة. تحيلنا مسألة قدرة اليهودي على التحرر إلى مسألة: ما هو العنصر الاجتماعي الخاص الذي يجب التغلب عليه لإلغاء اليهودية ؟ فقدرة يهود اليوم على التحرر هي علاقة اليهودية بتحرر عالمنا الراهن. تتأتى هذه العلاقة بالضرورة من الموقع الخاص لليهودية في عالمنا المستعبد الراهن.

لنتأمل اليهودي الدنيوي الواقعي، ليس يهودي السبت كما يفعل باور، و إنما اليهودي العادي.
لن نبحث عن سر اليهودي في ديِنه وإنما عن سر الدين في اليهودي الواقعي. ما هو الأساس الدنيوي لليهودية ؟ الحاجة العملية، المنفعة الخاصة. ما هي العبادة الدنيوية لليهودي ؟ التجارة. ما هو إلهه الدنيوي ؟ المال.

حسنا ! سيكون التحرر من التجارة والمال، أي من اليهودية العملية الواقعية تحرير عصرنا لنفسه.

إن تنظيما للمجتمع يلغي التجارة، أي إمكانية التجارة، يجعل وجود اليهودي مستحيلا. سينحل وعيه الديني مثل بخار باهت في هواء الحياة ْالحقيقية للمجتمع. ومن جهة أخرى: إذا أقر اليهودي ببطلان جوهره العملي هذا وعمل على إلغائه، فإنه يعمل انطلاقا من تطوره حتى هذا الوقت، في التحرر البشري العام وينقلب ضد أقوى تعبير عملي للاغتراب الإنساني عن الذات.

و هكذا فإِننا نتعرف في اليهودية على عنصر لاإجتماعي عام راهن دُفع إلى ارتفاعه الحالي من خلال التطور التاريخي الذي أسهم فيه اليهود من هذه الناحية السيئة بحماسة، إلى ارتفاع لا بد له فيه من الانحلال.

إن تحرر اليهود هو في معناه الأخير تحرر البشرية من اليهودية.

لقد تحرر اليهودي فعلا على طريقته اليهودية.

« إن اليهودي الذي لا يُقَبَل في فيينا مثلا إلا على مضض، يتحكم من خلال سلطته المالية بمصير المملكة كلها. واليهودي الذي يمكن أن يكون بلا حقوق في أصغر دولة ألمانية يقرر مصير أوروبا. وبينما تبقى الطوائف المهنية والروابط مقفلة أمام اليهودي أو لا تميل إليه، تسخر شجاعة الصناعة من تعنت مؤسسات القرون الوسطى. » (ب. باور، "المسألة اليهودية"، ص 114)

ليست هذه حقيقة وحيدة. لقد تحرر اليهودي على الطريقة اليهودية، ليس فقط بامتلاكه سلطة المال وإنما أيضا بأن أصبح المال من خلاله وبدونه سلطة عالمية، وأصبح روح اليهودي العملية الروح العملية للشعوب المسيحية. لقد تحرر اليهود بالقدر الذي أصبح فيه المسيحيون يهودا.

يروي العقيد هاملتون على سبيل المثال:

« أن ساكن انكلترة الجديدة الورع و الحر سياسيا هو نوع من الكاهن لاوكون، الذي لا يبذل أقل جهد ليتحرر من الأفاعي التي تلتف حوله. إن عبد المال هو وثنها، إنها لا تصلي له بالشفاه وحدها وإنما بكل قوى أجسامها ومشاعرها. ليست الأرض في نظرها سوى بورصة، وهي مقتنعة أن لا قدر لها في هذه الدنيا سوى أن تصبح أغنى من جيرانها. لقد سيطرت التجارة على جميع أفكارها، وأصبحت تسليتها الوحيد تغيير الأشياء. تحمل حين تسافر أمتعتها التافهة أو مكتب تجارتها على ظهورها، ولا تتحدث عن شيء غير الفوائد والأرباح. وإذا ما غابت تجارتها عن أعينها لحظة فإِنما يحدث ذلك فقط لتتجسس على الآخرين. »

نعم، لقد بلغت سلطة اليهودية على العالم المسيحي في أميركا الشمالية التعبير الطبيعي الذي لا لبس فيه حتى أن التبشير بالإنجيل نفسه ووظيفة التبشير المسيحي أصبحا بضاعة يتاجر بها، والتاجر المفلس في الإنجيل يفعل ما يفعله الإنجيلي الذي أصبح ثريا في التجارة.

« فذلك الذي يقف على رأس رهبانية محترمة قد بدأ تاجرا، ولأن تجارته أخنقه أصبح رجل دين، وبدأ آخر بوظيفة الكاهن وما أن أصبحت لديه كمية معينة من المال حتى استبدلها بالتجارة. والوظيفة الدينية هي سيرة مهنية في نظر الغالبية فعلا. » (بومون، 1، ص 185-186)

و وفقا لباور فإِنه

« لوضع كاذب أن تحجب عن اليهودي الحقوق السياسية على الصعيد النظري، بينما يملك في الواقع العملي قوة هائلة ويمارس تأثيره السياسي الكبير حتى لو كان محددا في التفاصيل. » (المسألة اليهودية، ص 114)

إن التناقض بين السلطة السياسية العملية لليهودي وحقوقه السياسية هو التناقض بين السياسية وسلطة المال بشكل عام. فبينما تحتل الأولى نظريا مكانا فوق الثانية، فإِنها في الواقع مستعبدة لها.

لقد عاشت اليهودية إلى جانب المسيحية ليس فقط كنقد ديني للمسيحية، ليس فقط كشك متضمن في الأصل الديني للمسيحية، وإنما أيضا لأن الروح العملية اليهودية، لأن اليهودية بقيت في المجتمع المسيحي نفسه وحصلت حتى على أعلى نمو لها. فاليهودي الذي يعتبر عضوا خاصا في المجتمع البورجوازي ليس سوى الظاهرة الخاصة ليهودية المجتمع البورجوازي.

لقد بقيت اليهودية ليس رغما عن التاريخ وإنما من خلال التاريخ.

فالمجتمع البورجوازي يولد من أحشائه الخاصة اليهود دون انقطاع.

ما هو أساس الدين اليهودي في ذاته ؟ الحاجة العملية، الأنانية.

و من هنا فإن توحيد اليهودي هو تعدد الآلهة بتعدد الحاجات، هو تعدد آلهة يجعل من بيت الخلاء نفسه موضوعا للقانون الإلهي. الحاجة العملية، الأنانية، هي مبدأ المجتمع البورجوازي، وتبرز على هذا النحو حالما يكون المجتمع البورجوازي قد أتم ولادة الدولة السياسية. إن إله الحاجات العملية والمصلحة الذاتية هو المال.

المال هو إله إسرائيل المتحمس الذي لا ينبغي أن يوجد أمامه إله آخر. يحط المال من قيمة جميع آلهة الإنسان الأخرى ويحولها إلى سلعة. المال هو القيمة العامة القائمة بذاتها لجميع الأشياء. ومن هنا فقد نهب من العالم كله، عالم الإنسان والطبيعة قيمته الخاصة. المال هو الجوهر الغريب عن الإنسان وعمله ووجوده، وهذا الجوهر الغريب لا يسيطر عليه و حسب، وإنما يجعله يعبده.

لقد أصبح إله اليهود دنيويا، وصارت الصيرفة هي الإله الحقيقي لليهودي. إلهه هو الصيرفة الوهمية وحسب.

إن النظرة إلى الطبيعة، تلك التي تنشأ في ظل سيادة الملكية الفردية و المال تعني الاحتقار الحقيقي والحط العملي من قيمة الطبيعة اللذين يوجدان في الديانة اليهودية حقا، ولكنهما يوجدان في الوهم فقط.

يعلن توما مونتسر [في منشور 1524] بهذا المعنى أنه أمر لا يطاق

« أن تكون جميع المخلوقات قد حولت إلى ملكية، الأسماك في الماء، الطيور في الهواء، النباتات على الأرض – يجب أن تكون المخلوقات حرة أيضا. »

إن ما هو مجرد في الدين اليهودي هو احتقار النظرية والفن والتاريخ والإنسان كغاية بحد ذاتها، هذا هو الموقف الحقيقي الواعي، فضيلة إنسان المال. أما علاقة النوع ذاتها، العلاقة بين الرجل والمرأة ..الخ فإنها تصبح موضوعا للتجارة ! تصبح المرأة بضاعة يتاجر بها.

إن القومية الخرافية لليهودي هي قومية التاجر، إنسان المال بشكل عام.

و قانون اليهودي الذي لا أساس له ليس سوى الكاريكاتير الديني للأخلاقية التي لا أساس لها وللقانون بوجه عام وللطقوس الشكلية وحسب، تلك التي يحيط عالم المنفعة الذاتية نفسه بها.

العلاقات القانونية هي هنا أيضا العلاقات الأسمى، العلاقات إزاء قوانين لا تشمله، لأنها انبثقت من إرادته وكيانه الخاصين، وإنما لأنها سائدة و لأن الخروج عليها معاقب عليه.

إن اليعقوبية اليهودية، اليعقوبية العملية نفسها التي يحيلنا باور إليها في التلمود، هي علاقة عالم المنفعة الذاتية بالقوانين السائدة فيه والتي يشكل الالتفاف الذكي عليها الفن الرئيس في هذا العالم.

أجل، إن حركة العالم ضمن قوانينه هو إلغاء حتى للقانون.

نظريا، لم تستطع اليهودية كدين أن تتطور لأن نظرة الحاجة العملية إلى العالم ضيقة الأفق بطبيعتها، تستنفد بعد وقت قصير.

لا يمكن لدين الحاجة العملية بطبيعته أن يبلغ الكمال في النظرية وإنما في التطبيق، لأن حقيقته هي التطبيق.

لم تستطع اليهودية أن تخلق عالما جديدا، وإنما استطاعت فقط أن تجتذب مبتكرات العالم الجديدة وأوضاع العالم إلى مجال نشاطها، لأن الحاجة العملية التي تكون المنفعة الذاتية عقلها، تقف موقفا سلبيا منها ولا تتسع حسب الرغبة وإنما تجد متسعها مع استمرار تطور الأوضاع الاجتماعية.

بلغت اليهودية نقطة الذروة باكتمال المجتمع البورجوازي، لكن المجتمع البورجوازي لا يكتمل إلا في العالم المسيحي. في ظل المسيحية فقط، التي تجعل جميع العلاقات الوطنية والطبيعية والأخلاقية والنظرية شيئا ظاهري بالنسبة للإنسان استطاع المجتمع البورجوازي أن ينفصل عن حياة الدولة انفصالا تاما ويمزق جميع روابط النوع ويضع الأنانية وحاجة المنفعة الذاتية مكان رابطة النوع ويحل عالم الإنسان في عالم من أفراد مفتتين يعادىِ بعضهم بعضا.

لقد انبثقت المسيحية من اليهودية. ثم عادت وذابت في اليهودية.

لقد كان المسيحي منذ البدء هو اليهودي المنظر، واليهودي من هنا هو المسيحي العملي، وقد أصبح المسيحي العملي يهوديا ثانية.

لقد تغلبت المسيحية على اليهودية الواقعية في الظاهر فقط. وقد كانت أكثر سموا وأكثر روحانية من أن تلغي فجاجة الحاجة العملية بطريقة أخرى غير تصعيدها إلى أثير.

المسيحية هي الفكرة النبيلة لليهودية واليهودية هي الاستخدام العادي للمسيحية، ولكن هذا الاستخدام لم يستطع أن يصبح عاما إلا بعد أن استكملت المسيحية كدين ناجز اغتراب الإنسان عن نفسه وعن الطبيعة نظري.

عند ذاك فقط استطاعت اليهودية أن تصل إلى السيطرة العامة وتبيع (تغيب) الإنسان والطبيعة المتخلى عنهما وتجعلهما قابلين للبيع، وموضوعا لعبودية الحاجة الأنانية والتجارة.

البيع [verausserung] هو الجانب العملي للتخلي (الإغتراب) [Entausserung]. كما يحول الإنسان كيانه إلى شيء ما دام أسير الدين، بأن يجعله كيانا خياليا غريب (مغيبا)، فإِنه لا يستطيع تحت سلطة الحاجة العملية إلا أن ينشط بطريقة عملية، فينتج أشياء عملية بأن يضع منتجاته وكذلك نشاطه تحت سيطرة كائن غريب ويمنحها قيمة كائن غريب –المال–.

تتحول الأنانية الروحية المسيحية في عمله الكامل بالضرورة إلى أنانية الجسد اليهودية، الحاجة السماوية إلى حاجة أرضية، والذاتية إلى منفعة ذاتية. إننا لا نفسر صلابة اليهودي بدينه بل بالأساس البشري لدينه،الحاجة العملية، الأنانية.

و لأن الجوهر الحقيقي لليهودي قد تحقق بشكل عام في المجتمع البورجوازي، و أصبح دنيويا، لم يستطع المجتمع البورجوازي إقناع اليهودي بوهمية جوهره الديني الذي هو ليس سوى المفهوم المثالي للحاجة العملية.

و هكذا فإِننا لا نعثر على جوهر يهودي اليوم في الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم وفي التلمود وحسب، وإنما نجده في المجتمع الراهن، ليس كتجريد وإنما ككائن على أعلى درجة من العملية، ليس فقط كضيق أفق اليهودي وإنما كيهودية المجتمع ضيقة الأفق.

حالما ينجح المجتمع في التغلب على الجوهر العملي لليهودي، على التاجر و شروطه، يصبح وجود اليهودي مستحيلا، لأن وعيه لا يعود يملك موضوعا، و لأن القاعدة الذاتية لليهودية، وهي الحاجة العملية قد اتخذت طابعا إنسانيا، لأن النزاع بين الوجود الفردي المحسوس وبين وجود النوع البشري قد ألغي.

إن التحرر الاجتماعي لليهودي هو تحرر المجتمع من اليهودية.

كتب في آب - ديسمبر 1843
(الحولية الألمانية الفرنسية، باريس 1844)
 


الهوامش

[1]. برونوباور: « المسألة اليهودية » براونشفايغ 1834

[2]. برونوباور: "قدرة يهود ومسيحيي اليوم على التحرر"، "واحد وعشَرون ملزمة من سويسرا" ، الناشر: جورج هيرفيه، زيوريخ وفينترتور 1843، ص 6 – 7


الكتاب بصيغة PDF

أرشيف ماركس وانجلز