الفصل الثاني
النمو الاقتصادي وتعرجات القيادة

"شيوعية الحرب"، و"السياسة الاقتصادية الجديدة" (النيب) ، والسياسة المتبعة تجاه الكولاك

إن الخط البياني لتطور الاقتصاد السوفياتي لا يصعد بصورة منتظمة . ويمكن أن نرى في الـ 18 السنة من تاريخ النظام الجديد عدة مراحل تحددها أزمات حادة. إن لمحة سريعة لتاريخ اقتصاد الاتحاد السوفياتي على ضوء سياسة الحكومة ضرورية جدا لتشخيص المرض وتوقع المستقبل.

لقد استمرت الحرب الأهلية العنيفة ثلاث سنوات بعد الثورة، كانت الحياة الاقتصادية خلالها خاضعة لمتطلبات جبهات القتال. وبالنظر لضآلة الموارد بقيت الحياة الثقافية في المحل الثاني، وقد تميزت بالمدى الجريء للفكر الخلاق وخاصة فكر لينين. ويسمون هذه الفترة فترة "شيوعية الحرب" (1918 – 1921) وهي المماثل البطولي "لاشتراكية الحرب" في البلدان الرأسمالية. اقتصرت الأهداف الاقتصادية لسلطة السوفيات على دعم الصناعة الحربية بنوع خاص والاستفادة من الاحتياطات القليلة الموجودة بغية متابعة القتال وإنقاذ سكان المدن من الجوع. لقد كانت شيوعية الحرب عبارة عن تنظيم الاستهلاك في قلعة محاصرة.

وعلينا أن نعترف هنا أن تطلعاتها كانت في بادئ الأمر أوسع مدى. ولقد أملت حكومة السوفيات وحاولت أن تستخلص من هذا التنظيم اقتصادا موجها في حقل الإنتاج والاستهلاك. بكلام آخر لقد فكرت بالانتقال رويدا رويدا من شيوعية الحرب إلى الشيوعية الحقيقة دون تعديل النظام. ويقول برنامج الحزب البلشفي الذي تم تبنيه في عام 1919: تستمر سلطة السوفيات في حقل التوزيع، دونما تهاون، في الاستعاضة عن التجارة بتوزيع المنتجات توزيعا منظما على الصعيد الوطني حسب المخطط الإجمالي.

لكن الصراع أخذ يزداد باستمرار بسبب العواقب الوخيمة للأعمال العدوانية، ولكن أيضا بسبب انعدام حوافز المصلحة الفردية لدى المنتجين. كانت المدينة تطلب من الريف القمح والمواد الأولية دون أن تقدم له بالمقابل سوى وريقات ملونة تحمل اسم نقود نظرا لعادة قديمة.

وأصبح الموجيك (1) يدفن مؤنه، فترسل الحكومة مفارز من العمال المسلحين لمصادرة الحبوب، فيخفض الموجيك بعد ذلك زراعته. أما الإنتاج الصناعي فقد وصل في عام 1921، وهو العام الذي أعقب انتهاء الحرب الأهلية، إلى خمس إنتاج ما قبل الحرب في أحسن الأحوال. وانخفض إنتاج الصلب من 4,2 مليون طن إلى 183000 طن أي اقل بـ 23 مرة. وهبط المحصول الزراعي العام من 801 مليون كنتال إلى 503 ملايين في عام 1922، وكانت مجاعة رهيبة. وتدهور حجم التجارة الخارجية من 2,9 مليار روبل إلى 30 مليونا فقط. وانهارت القوة المنتجة بشكل لم يعرفه التاريخ. وغدت البلاد، والسلطة معها، على حافة الهاوية.

لقد أخضعت الآمال الطوباوية "لشيوعية الحرب" بعد ذلك لنقد قاس للغاية وصحيح من عدة وجوه. ويبقى الخطأ النظري الذي ارتكبه الحزب الحاكم لا مبرر له إطلاقا إذا تجاهلنا أن كل الحسابات كانت تستند آنذاك إلى توقع نصر مقبل للثورة في الغرب. كان يسود الاعتبار أنه من البديهي أن تزود البروليتاريا الألمانية المنتصرة روسيا السوفييتات بالآلات والمنتجات الصناعية وبعمال مؤهلين بشكل جيد وفنيين ومنظمين، تسد قيمتها فيما بعد بأغذية ومواد أولية. ومما لا شك فيه أنه لو نجحت الثورة في ألمانيا (ويرجع فشلها إلى الاشتراكية الديمقراطية على وجه الحصر) لتقدمت اقتصاديات ألمانيا والاتحاد السوفياتي بخطى عملاقة، بحيث أن مصير أوروبا والعالم اليوم كان بدا أكثر إشراقا. بيد أنه يمكن القول بكل تأكيد انه حتى في حال نجاح هذا الاحتمال المتفائل نفسه كان لا بد من نبذ طريقة التوزيع من قبل الدولة والعودة إلى الأساليب التجارية.

ويبرر لينين ضرورة إعادة علاقات السوق بأن في البلاد عدة ملايين من المزارع المنعزلة التي اعتادت أن تحدد علاقتها بالعالم المحيط بها بواسطة التجارة. كانت مهمة حركة البضائع أن تؤمِّن "التحام" الفلاحين بالصناعة المؤممة. وصيغة "الالتحام" النظرية بسيطة جدا: على الصناعة أن تقدم للريف البضائع الضرورية بأسعار تجعل الدولة تعدل عن مصادرة المنتجات الزراعية.

كان تحسين العلاقات الاقتصادية مع الريف مهمة السياسة الاقتصادية الجديدة الأكثر إلحاحا والأكثر عسرا. وقد بينت التجربة بسرعة أن الصناعة نفسها كانت بحاجة، رغم تشريكها، إلى طرائق حساب نقدي monétaire ابتدعتها الرأسمالية من قبل. فالخطة لا تبنى على معطيات الذكاء وحدها. ويبقى قانون العرض والطلب بالنسبة لها القاعدة المادية الضرورية والمصحح المنقذ، وذلك لفترة طويلة. بعد أن أصبحت السوق قانونية، عاودت عملها بمساعدة نظام نقدي أعيد تنظيمه. ومنذ عام 1923 وبفضل الدفعة الأولى الآتية من الريف انتعشت الصناعة وبدر عنها نشاط كثيف. ويكفي الإشارة إلى أن الإنتاج تضاعف في عامي 1922 – 1923 حتى بلغ في عام 1926 مستوى ما قبل الحرب، أي أنه زاد خمس مرات عن مستوى عام 1921. وزادت المحاصيل الزراعية بصورة متوازية ولكن بسرعة أقل.

ومنذ سنة 1923 الحاسمة ازداد اختلاف وجهات النظر التي كانت قد ظهرت سابقا في الحزب الحاكم حول العلاقة بين الصناعة والزراعة. ولم تكن الصناعة قادرة على التقدم في بلاد استنزفت كل مدخراتها إلا باستلاف الحبوب والمواد الأولية من الفلاحين. لكن "استلافات إجبارية" ثقيلة الوطأة كانت تؤدي إلى قتل الحوافز للعمل: فالفلاح الذي لا يؤمن بسعادة المستقبل كان يرد على مصادرة القمح بالامتناع عن الزراعة. أما الاستلافات الضئيلة فتهدد الاقتصاد بالركود لأن الفلاح الذي لا يتلقى مواد صناعية كان يتجه إلى إرضاء متطلباته الفردية بنفسه والعودة بالتالي إلى الأشكال الحرفية القديمة. وبدأت الاختلافات في وجهات النظر في الحزب حول موضوع: ماذا يجب أخذه من الريف للصناعة بغية الوصول إلى توازن ديناميكي. وتعقد الأمر أكثر فأكثر بمواضيع تتعلق بالتركيب الاجتماعي للريف.

وفي ربيع 1923 تكلم ممثل المعارضة اليسارية (2) – التي لم تكن قد اتخذت لها هذا الاسم بعد – في مؤتمر الحزب مبينا الفرق بين أسعار الصناعة والزراعة بخط بياني يدعو إلى القلق. وأطلق على هذه الظاهرة آنذاك اسم "المقص" الذي دخل فيما بعد في المصطلحات العالمية. لقد قال آنذاك أنه إذا استمرت الصناعة بالتأخر وافتح المقص باستمرار فسيصبح الانفصال بين الريف والمدينة امرأ لا مفر منه.

وكان الفلاحون يلاحظون بوضوح الفرق بين ثورة البلاشفة الزراعية الديمقراطية وسياستهم المتجهة لإرساء قواعد الاشتراكية. لقد كسب الفلاحون في مصادرة الأملاك الخاصة وأملاك الدولة أكثر من نصف مليار روبل ذهبي في العام الواحد إلا أنهم خسروا هذا المبلغ، بل أكثر منه، بسبب الأسعار المرتفعة للسلع الصناعية التي تنتجها الدولة. وما دامت الموازنة بين الثورتين الديمقراطية والاشتراكية، المجتمعتين في ثورة أوكتوبر، تؤدي بالنتيجة إلى خسارة المزارعين لمئات الملايين من الروبلات سنويا فإن تحالف الطبقتين يبقى أمرا مشكوكا فيه.

إن تقسيم الزراعة الموروث من الماضي تزايد بعد ثورة أوكتوبر، كما ازداد عدد قطع الأرض في السنوات العشر الأخيرة من 16 إلى 25 مليونا، وهو ما زاد في اتجاه معظم الفلاحين إلى إرضاء حاجاتهم الفردية فقط. وكان هذا من أسباب نقص المواد الغذائية.

إن ضعفا في إنتاج السلع يؤدي بدون شك إلى بروز مستغلين. وقد تزايدت مع تقدم الريف الفروقات وسط الجماهير الفلاحية: كان هؤلاء يسيرون على الطريق القديم للتطور السهل. وكان الكولاك يثرون بسرعة أكبر من سرعة التقدم الزراعي. إن سياسة الدولة، التي كانت ترفع شعار: "التحول إلى الريف" تعطي الحظوة للكولاك في الحقيقة. وقد تحمل الفلاحون الفقراء ضرائب أثقل من ضرائب الفلاحين الأغنياء الذين كانوا يحصلون أيضا على معظم سلف الدولة. وأصبح فائض القمح المخزون على وجه الخصوص لدى الفلاحين الأغنياء وسيلة لاستعباد الفقراء، وكان يباع للبرجوازية الصغيرة في المدن بأسعار فاحشة. إن بوخارين الذي كان منظر الجناح الحاكم آنذاك كان يوجه للفلاحين شعاره المشهور: "اثروا !". وكان من المفترض أن يعني ذلك نظريا تذويب الكولاك بالتدريج عبر التدابير الاشتراكية، لكن الأمر بدا عمليا مغايرا لذلك وأدى إلى إثراء الأقلية على حساب الأكثرية الساحقة.

وغدت الدولة الأسيرة لسياستها مضطرة للتراجع خطوة خطوة أمام البرجوازية الزراعية الصغيرة. فأصبح استخدام اليد العاملة المأجورة في الزراعة وتأجير الأرض بحماية القانون في عام 1925. كما غدا الفلاحون بين قطبين: الرأسمالي الصغير، والأجير المياوم. إن الدولة التي لا تملك بضائع صناعية كافية قد استبعدت من السوق الريفية، فظهر من تحت الأرض وسيط يعمل بين الكولاك والمعلمين الحرفيين الصغار. ولجأت مشاريع الدولة نفسها إلى البحث عن المواد الأولية لدى التجار. لقد شعر الجميع بالمد الرأسمالي الصاعد، كما رأى كل ذي بصيرة أن تغيير أشكال الملكية لا يحل مسالة الاشتراكية بل يطرحها فقط.

وفي عام 1925 عندما كانت سياسة التوجه نحو الكولاك في أوجها بدأ ستالين يعد العدة لإلغاء تأميم الأرض. وحينما سأله أحد الصحفيين السوفيات: "أليس من مصلحة الزراعة إعطاء كل مزارع قطعة الأرض التي يزرعها، وذلك لمدة 10 سنوات ؟"، أجابه: "بل لمدة 40 سنة !". بناء على مبادرة ستالين الشخصية، قدم مفوض الشعب للزراعة في جمهورية جورجيا، مشروع قانون لإلغاء تأميم الأرض. أما الهدف فكان منح المزارعين الثقة بمستقبلهم. والحالة هذه، كان 60 بالمئة من القمح المعد للتجارة قد أصبح في ربيع 1926 بحوزة 6 بالمئة من المزارعين ! ولم يكن لدى الدولة ما يكفيها من الحبوب للتجارة الخارجية أو حتى لمتطلبات البلاد، فاضطرت كنتيجة لقلة الصادرات إلى الاستغناء عن استيراد المنتجات الصناعية والتخفيض ما أمكن من استيرادها للمواد الأولية والآلات.

إن السياسة المسايرة للكولاك التي كانت تعيق التصنيع وتنزل الضرر بأكثرية الفلاحين، كشفت منذ أعوام 1924 – 1936 عن نتائجها السياسية: فبإعطائها البرجوازية الصغيرة في المدن والريف ثقة خارقة بالنفس، دفعتها إلى السيطرة على عدة سوفياتات محلية. وقوّت البيروقراطية وزادت ثقتها، بنفسها وأخذت تثقل كاهل العمال أكثر فأكثر. وأدت إلى إلغاء كل أشكال الديمقراطية في الحزب وفي المجتمع السوفياتي. وتسببت قوة الكولاك المتزايدة بترويع عضوين مرموقين من الجماعة الحاكمة هما زينوفييف وكامينيف وهما رئيسا السوفييت في أكثر مراكز الحركة العمالية أهمية: ليننغراد وموسكو. ولكن الريف والبيروقراطية كانا مع ستالين. فانتصرت سياسة تشجيع كبار المزارعين وانضم زينوفييف وكامينيف وأنصارهما عام 1926 إلى معارضة 1933 (المسماة بـ "التروتسكية").

والحقيقة أن الجماعة الحاكمة لم ترفض أبدا من حيث "المبدأ" جماعية الزراعة. ولكنها كانت تؤجلها إلى عدة عقود زمنية أخرى. لقد كتب مفوض الشعب للزراعة ياكوفليف في عام 1927، أنه إذا كان تحويل الريف اشتراكيا لا يتم إلا بالجماعية، فإنه "لن يحصل خلال سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، بل ربما لن يحصل بمرور سنوات عشر". وكتب بعد ذلك: "إن الكولخوزات (المزارع الجماعية) والكوميونات كانت وستبقى لمدة طويلة أيضا عبارة عن جزر وسط ملكيات الفلاحين الزراعية الفردية". وفي الواقع، لم يكن الاستثمار الزراعي الجماعي آنذاك يضم أكثر من 0,8 بالمئة من عائلات المزارعين.

وفي عام 1923 بدأ الصراع واضحا داخل الحزب في سبيل ما يدعى "الخط العام"، ثم أخذ شكلا عنيفا وحادا اعتبارا من 1926. وكتبت المعارضة اليسارية في برنامجها الذي تناول المشاكل الاقتصادية والصناعية كافة تقول: "يجب على الحزب أن يدين بدون شفقة كل المحاولات الرامية إلى إلغاء فكرة تأميم الأرض أو التخفيف من هذه الفكرة التي تشكل قاعدة من قواعد ديكتاتورية البروليتاريا". وانتصرت موضوعة المعارضة، وتوقفت المحاولات المكشوفة لعرقلة تأميم الأرض. لكن الأمر كان أعمق من ذلك ولم تتمحور المسألة حول شكل ملكية الأرض فقط.

وقد أوضح البرنامج السياسي للمعارضة قائلا: "مقابل الأهمية المتزايدة للمزارع الفردية في الريف ينبغي الرد بنمو الاستثمارات الجماعية الأكثر سرعة. هناك ما يدعو لأن نعطي سنويا، وبصورة منتظمة، مبالغ كبيرة لدعم الفلاحين الفقراء المجمعين في مزارع جماعية"... "لابد للعمل التعاوني بمجمله من أن يتجه نحو قلب الإنتاج الصغير واستبداله بإنتاج جماعي واسع". لقد أصرت الجماعة الحاكمة على أن تعتبر أي برنامج واسع للتجميع نوعا من الطوبى في المستقبل القريب. هكذا وجدنا إبان الإعداد للمؤتمر الخامس عشر للحزب، الذي كان مخططا ليجري فيه طرد المعارضة كيف انبرى مولوتوف رئيس مجلس مفوضي الشعب فيما بعد مكررا: "لا يمكن أن نترك لأنفسنا العنان ونندفع، ضمن الظروف الحالية، مع أوهام الفلاحين الفقراء الساعية إلى الجماعية الجماهيرية". لقد حدث ذلك في أواخر عام 1927، وقد كان التكتل الحاكم يجهل آنذاك ما هي السياسة التي سوف يعتمدها فيما بعد بالنسبة للأرياف.

لقد كانت تلك السنوات نفسها (1923 – 1928) هي سنوات صراع التحالف القابض على السلطة (ستالين ومولوتوف وريكوف وتومسكي وبوخارين وزينوفييف وكامينيف) ضد "جماعة التصنيع الكبير" المؤيدة للتخطيط. ولسوف يستغرب مؤرخو المستقبل عندما يكتشفون الحذر الهدام الذي سيطر آنذاك على عقلية الحكومة السوفياتية تجاه كل مبادرة اقتصادية جريئة. وقد تقدم التصنيع بخطوات تجريبية، بناء على دفعات خارجية، وكانت الحسابات تتعرض إلى تعديلات مستمرة خلال العمل، مما سبب زيادة ضخمة في النفقات العامة. وعندما طالبت المعارضة بدءا بعام 1923 بتنظيم خطة خماسية استقبل كلامها بهزء يشبه سخرية البرجوازية الصغيرة الخائفة من "القفز في المجهول". وفي نيسان 1927 أكد ستالين في اجتماع اللجنة المركزية بأن البدء ببناء المحطة الكهربائية الكبيرة على نهر الدنيبر سيكون مثله بالنسبة لنا كمثل الموجيك الذي يشتري حاكيا بدلا من أن يشتري بقرة. لقد عبرت هذه المقارنة عن موجز لبرنامج كامل. ومن المفيد أن نذكر في هذا المجال بأن كل الصحف البرجوازية العالمية، وبعدها الصحف الاشتراكية، كانت تنشر بكل طيبة خاطر اتهامات الدولة للمعارضة اليسارية بالرومنطيقية الصناعية.

وفي حين كانت المناقشات تحتدم في الحزب، كان الفلاح يرد على نقص السلع الصناعية بإضرابات ازداد عنادها يوما بعد يوم، ويمتنع عن إنزال حبوبه إلى السوق وزيادة إنتاج القمح. هذا وقد كان زعماء الجناح اليميني (ريكوف – تومسكي – بوخارين) يطالبون بإعطاء حرية أكبر للميول الرأسمالية في الريف: كزيادة سعر القمح حتى ولو أدى ذلك إلى الإقلال من سرعة التصنيع. كان الحل الوحيد وفقا لهذه السياسة هو التوجه نحو استيراد بضائع صناعية مقابل المواد الأولية التي يقدمها المزارعون للتصدير. ومعنى ذلك تحقيق عملية "الالتحام" بين الفلاح الغني والرأسمالية العالمية بدلا من "التحام" الاقتصاد الزراعي بالصناعة الاشتراكية، أي ضياع الأهداف التي قامت من أجلها ثورة أوكتوبر.

وفي عام 1926، رد ممثل المعارضة (3) في مؤتمر الحزب بقوله: "إن زيادة سرعة التصنيع لاسيما عبر فرض ضرائب أكبر على الكولاك، ستؤدي إلى زيادة البضائع، مما يسمح بخفض الأسعار.. وعلى هذا النحو يستفيد العمال ومعظم الفلاحين. إن استدارتنا نحو الريف لا تعني أن ندير ظهرنا للصناعة، بل أن ندير الصناعة نحو الريف، لأن الريف لا يحتاج إلى تأمل وجه دولة لا تمتلك صناعة".

وجاءت ردود ستالين مدوية بوجه "خطة المعارضة الخيالية". وقال إن على الصناعة أن "لا تتقدم كثيرا منفصلة عن الزراعة ومتجاهلة وتيرة التراكم في بلدنا". وكانت قرارات الحزب تردد الحقائق الأولية ذاتها حول التلاؤم السلبي مع متطلبات الفلاحين الأغنياء. وقرر المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الذي اجتمع في كانون الأول عام 1927، ليلحق "بجماعة التصنيع الكبير" هزيمة ساحقة، أن يحذر من "الخطر الكامن وراء تثمير رساميل كبيرة في البناء الصناعي". ولم يكن التكتل الحاكم يرغب آنذاك برؤية الأخطار الأخرى.

لقد شهدت السنة الاقتصادية 1927 – 1928 انتهاء الفترة المسماة بفترة إعادة البناء، والتي عملت الصناعة خلالها بأدوات ما قبل الثورة كما عملت الزراعة بوسائلها القديمة. وكان التقدم اللاحق يتطلب بناء صناعيا ضخما. لقد أصبح من المستحيل الحكم خبط عشواء ودونما خطة.

لقد حللت المعارضة احتمالات التصنيع الاشتراكي منذ أعوام 1923 – 1925 فاستنتجت بعد استنفاد الإمكانيات التي تقدمها الآلات الموروثة عن البرجوازية إن الصناعة السوفييتية تستطيع، بالاستناد إلى التراكم الاشتراكي، النمو بسرعة لا يمكن للرأسمالية بلوغها. لقد كان قادة التكتل الحاكم يسخرون علانية من المعاملات coefficients المتراوحة بين 15 و18 بالمئة المصاغة بحذر، كما لو كانت موسيقى خرافية آتية من مستقبل مجهول. وقد كان هذا مضمون النضال ضد "التروتسكية في ذلك الحين".

إن أول مخطط إجمالي رسمي للخطة الخمسية، جرى وضعه في عام 1927، إنما وضع بروح خسيسة مثيرة للسخرية. كان على زيادة الإنتاج الصناعي وفقا لهذه الخطة أن تتراوح بين 9 و4 بالمئة، تبعا لخط منحن أقل حدة، عاما بع عام. كان على الاستهلاك الفردي ألا يزيد خلال سنوات خمس إلى أكثر من 12 بالمئة. ويبدو الجبن غير المعقول لهذا التصور بمزيد من الوضوح إذا عرفنا أنه كان على ميزانية الدولة في نهاية الخطة الخمسية ألا تتجاوز 16 بالمئة فقط من الدخل القومي، بينما كانت ميزانية روسيا القيصرية، التي لم تفكر طبعا ببناء مجتمع اشتراكي تمتص 18 بالمئة من هذا الدخل ! ربما ليس نافلا أن نضيف بأن واضعي هذه الخطة من مهندسين واقتصاديين تعرضوا بعد عدة سنين إلى المثول أمام المحاكم التي أدانتهم بقسوة متناهية بتهمة التخريب والعمل بوحي قوة عظمى أجنبية. ولو تجرأ المتهمون لأظهروا في المحكمة أن دورهم في وضع الخطة كان متوافقا تماما مع "الخط العام" للمكتب السياسي الذي كان يصدر لهم التعليمات.

إن صراع الاتجاهات قد عبر عن نفسه بلغة الأرقام. لقد أوضح برنامج المعارضة: "إن صياغة مخطط على تلك الدرجة من القماءة والتشاؤم في العيد العاشر لثورة أوكتوبر يعني في الحقيقة العمل ضد الاشتراكية". وقد قام المكتب السياسي بعد ذلك بسنة بإقرار مشروع جديد لخطة خمسية يكون معدل زيادة الإنتاج السنوية بموجبها 9 بالمئة. إن التطور الفعلي كان يتكشف عن ميل عنيد للاقتراب من معاملات "جماعة التصنيع الكبير". وعندما تبدلت سياسة الدولة راديكاليا بعد ذلك بسنة، قررت لجنة الخطة مشروعا ثالثا تتفق ديناميكيته بشكل غريب مع التشخيصات الافتراضية التي قدمتها المعارضة في عام 1925.

إن التاريخ الحقيقي لسياسة الاتحاد السوفياتي الاقتصادية مختلف كل الاختلاف عن الأسطورة التي تبتدعها الدولة، ومن المؤسف أن نرى كتـَّابا شرفاء مثل الزوجين ويب لم ينتبهوا لهذا الأمر.

 

انعطاف مفاجئ:
"الخطة الخمسية في 4 سنوات" و"الجماعية الكاملة"

إن التردد تجاه المزارع الفلاحية الفردية، والحذر تجاه الخطط الكبرى، والدفاع عن تطور بطيء، وازدراء المشكلة الأممية، أمور شكلت بمجموعها نظرية "الاشتراكية في بلد واحد" التي صاغها ستالين لأول مرة في خريف عام 1924 بعد هزيمة البروليتاريا في ألمانيا. وهي تقضي بعدم الاستعجال بعملية التصنيع، وبمسايرة الموجيك، وعدم الاعتماد على الثورة العالمية، وبالامتناع قبل كل شيء عن نقد السلطة البيروقراطية ! وليس انقسام الفلاحين إلى شرائح، ضمن هذا المنظور، إلا من بنات أفكار المعارضة، وعندما قدم المكتب المركزي للإحصاء جداول تولي الكولاك مكانة أكبر مما تتمناه السلطة، عمد ياكوفليف المذكور آنفا إلى إلغاء هذا المكتب. وبينما كان القادة يطلقون التأكيدات المطمئنة حول الخلاص من القحط في إنتاج السلع، و"السير الهادئ للتطور" القادم، والتخزين الأكثر "تكافؤا" للحبوب، الخ، كان الفلاح المترف الذي أصبح أقوي يجر خلفه الفلاح المتوسط ويمتنعان معا عن تقديم القمح للمدن. وفي يناير 1928 وجدت الطبقة العاملة نفسها وجها لوجه أمام مجاعة وشيكة. إن للتاريخ أحيانا ممازحات قاسية، ففي الشهر الذي أطبق فيه الكولاك على رقبة الثورة ألقت الحكومة بممثلي المعارضة اليسارية في السجون أو أرسلتهم إلى سيبيريا لأنهم "ألقوا الهلع" في قلوب المواطنين، عندما حدثوهم عن شبح الكولاك !

وحاولت الحكومة أن تجد تفسيرا لإحجام الفلاحين عن تسليم القمح، فقالت في تفسيرها، إن سبب هذا الإحجام هو عداء الكولاك لنظام الحكم الاشتراكي (ولكن من أين خرج الكولاك ؟)، أي حوافز سياسية عامة. ولكن الفلاح الغني لا يميل لمثل هذه "المثاليات". فهو يخفي قمحه لأن بيعه غير مريح، ولأن هذا الإحجام عن البيع يزيد من تأثيره بين الفلاحين. إن التدابير القمعية مأخوذة على حدة غير كافية إطلاقا لمواجهة التخريب من جانب الفلاحين الميسورين، وقد كان ينبغي تبديل السياسة المتبعة، إلا أن الحيرة والتردد استمرا وقتا طويلا.

في تموز / يوليو 1928 أعلن ريكوف، الذي كان ما يزال يرئس الحكومة في تلك المرحلة، أن "توسيع المزارع الفردية هو المهمة الأساسية للحزب". وردد ستالين صدى كلامه قائلا: "هناك أشخاص يظنون أن عهد المزارع الفردية قد ولى ولم يعد ينبغي تشجيعها... ليس لهؤلاء الأشخاص ما يجمعهم مع الخط العام لحزبنا". وبعد أقل من عام لم يعد الخط العام للحزب متلائما مع هذا الكلام: لقد بزغ فجر الجماعية الكاملة في الأفق.

نتج الاتجاه الجديد عن تدابير تجريبية كالسابق، بعد صراع خفي داخل المجموعة الحاكمة. لقد سبق وقالت المعارضة: "يجمع اليمين والوسط عداؤهما المشترك للمعارضة التي سيؤدي استبعادها إلى تسريع الصراع في ما بينهما حتما". وهو ما حصل بالفعل. لكن زعماء الكتلة الحاكمة السائرة إلى التفكك رفضوا الاعتراف بأي شكل من الأشكال بان توقع المعارضة هذا قد تحقق كما الحال مع العديد من التوقعات الأخرى. وفي 19 تشرين الأول / أوكتوبر 1928 كان ستالين لا يزال يردد: "لقد آن الأوان لننتهي من الإشاعات حول وجود يمين يبدي نحوه التسامح المكتب السياسي للجنتنا المركزية". لكن المجموعتين كانتا تتحسَّسان مع ذلك مكاتب الحزب، وعاش الحزم المكموم وسط الإشاعات الغامضة والظنون. وبعد مرور عدة أشهر، إذا بالصحف الرسمية تنشر أن رئيس الحكومة ريكوف "كان يناور مستفيدا من متاعب السلطات السوفييتية". وأن رئيس الأممية الشيوعية بوخارين كان "خاضعا للتأثيرات الليبرالية – البرجوازية"، وأن تومسكي رئيس المجلس المركزي للنقابات لم يكن سوى نقابي بائس. وكان الثلاثي ريكوف، وبوخارين، وتومسكي أعضاء في المكتب السياسي. إذا كانت السلطة قد استخدمت في صراعها ضد المعارضة اليسارية أسلحة مستعارة من مستودع اليمين، ففي وسع بوخارين أن يتهم ستالين الآن بأنه يستعين في مواجهته لليمين بنتف من برنامج المعارضة المدانة، وهو محق في هذا الاتهام.

مهما يكن فقد تم الانعطاف، وأصبح شعار "اثروا"، ونظرية امتصاص الاشتراكية للكولاك من دون ألم، فكرتين مرفوضتين بحزم وإن بصورة متأخرة، وأصبح التصنيع شعار اليوم. وحل بدلا من القناعة والرضى هلع جارف. وشعار "اللحاق والسبق" الذي رفعه لينين، وكاد أن ينسى أضيف إليه تعبير "في اقصر مدة". وحل مكان الخطة الخمسية التي تشكل الحد الأدنى، والتي وافق عليها مؤتمر الحزب مبدئيا، خطة جديدة أخذت عناصرها الرئيسية من برنامج المعارضة اليسارية المهزومة بالأمس. وتركزت الأنظار كلها على مشروع السد على نهر الدنيبر الذي شبِّه قبل مدة قصيرة بالحاكي.

وعند ظهور بوادر أولية للنجاح، أعطيت تعليمات جدية لتنفيذ الخطة الخمسية في 4 سنوات. واعتقد التجريبيون المبلبلون أن كل شيء أصبح بمقدورهم، وانقلبت الانتهازية (كما يحصل كثيرا في التاريخ) إلى مغامرة، أي إلى نقيضها. انتقل المكتب السياسي الذي كان مستعدا في 1923 – 1928 للتكيف مع فلسفة بوخارين حول "التقدم بسرعة السلحفاة"، إلى الارتفاع بالنمو السنوي من 20 إلى 30 بالمئة، محاولا أن يجعل من كل نجاح مؤقت قاعدة، ومتجاهلا ارتباط فروع الاقتصاد بعضها بالبعض الأخر. هذا وقد أخذت الأوراق النقدية تستعمل لسد الثغرات المالية في الخطة، فارتفعت الأوراق النقدية المتداولة من 1,7 مليار روبل إلى 5,5 مليار، لتصل في منتصف المرحلة الثانية إلى 8,4 مليار روبل. أما البيروقراطية فلم تتخلص فقط من مراقبة الجماهير التي أثقل التصنيع السريع كاهلها بل أيضا من مراقبة التشرفونييتز (4) الأوتوماتيكية. واهتز النظام المالي من جذوره مرة أخرى بعد أن كانت أرسيت قواعده على أسس ثابتة في بدء مرحلة النيب NEP.

إلا أن الخطر الأكبر على النظام والخطة برز في الريف. فقد عرف الشعب فجأة في 15 شباط / فبراير عن طريق افتتاحية في البرافدا أن صورة الريف الحقيقة مختلفة عن الصورة التي رسمته له السلطات حتى الآن، وتشبه إلى حد بعيد الشكل الذي رسمته له المعارضة التي طردها المؤتمر. أما الصحافة التي كانت تنكر بالأمس وجود الكولاك، فقد اكتشفتهم اليوم فجأة بناء على أوامر عليا، لا في الريف فحسب، بل في داخل الحزب نفسه.

وعرف الجميع أن خلايا الحزب كانت غالبا تحت سيطرة الفلاحين الأغنياء الذين يملكون أدوات زراعية متنوعة، ويستخدمون اليد العاملة المأجورة بشكل واسع، ويخفون مئات بل ألاف "البود" (5) من الحبوب، ويظهرون فضلا عن ذلك كأعداء الداء للسياسة "التروتسكية". وقد تسابقت الصحف إلى نشر معلومات مثيرة عن كولاك يشغلون مراكز أمناء عامين في اللجان المحلية ويعملون على إبعاد الفلاحين الفقراء والمياومين عن الحزب. وانقلبت كل المعايير والقيم القديمة رأسا على عقب.

أصبح من الضروري مصادرة خبز الكولاك اليومي لتموين المدن، ولم يكن هذا يتم بدون عنف؛ كما أخذت مصادرة مستودعات الكولاك، والفلاحين المتوسطين، في اللغة الرسمية اسم "تدابير استثنائية". وهذا يعني وعد الريف بالعودة للسير على الطريق القويم في المستقبل. لكن الريف لم يقتنع بمعسول الكلام، وكان محقا في ذلك. وقتلت المصادرة القسرية لقمح المزارعين الأغنياء الرغبة في زيادة المساحة المزروعة. كما وجد المزارعون الفقراء والأجراء الزراعيون المياومون أنفسهم بلا عمل، وغدت الزراعة والدولة معها في طريق مسدود مرة أخرى. فكان لا بد من تبديل "الخط العام" بأي ثمن.

إن ستالين ومولوتوف اللذين استمرا يمنحان الأفضلية للزراعات الفردية المجزأة، أخذا يؤكدان ضرورة الإسراع بتوسيع مزارع الدولة (السوفخوزات) والمزارع الجماعية للفلاحين (الكولخوزات). لكن لما كان نقص التموين الخطير لا يسمح بإيقاف حملات المصادرة العسكرية التي تشن على الريف، وجد برنامج النهوض بالزراعة الفردية المجزأة نفسه معلقا في الهواء. وكان لا بد من "الانزلاق على منحدر" الجماعية. فتولد عن "التدابير الاستثنائية" المؤقتة المستخدمة لمصادرة القمح برنامج "لتصفية الكولاك كطبقة". وجاءت التعليمات المتضاربة الأكثر غزارة من أنصبة الخبز لتكشف بما لا يقبل الشك فقدان أي برنامج زراعي لخمس سنوات أو حتى لخمس شهور.

لقد كان على الزراعة الجماعية حسب الخطة التي تم وضعها خلال أزمة التموين أن تشمل في نهاية السنة الخامسة حوالي 20 بالمئة من عائلات الفلاحين. هذا البرنامج الذي تتكشف ضخامته إذا ما عرفنا أن الزراعة الجماعية لم تشمل خلال السنوات العشر المنصرمة سوى 1 بالمئة من عائلات الفلاحين، تم تجاوزه خلال اقل من سنتين ونصف بعد بدء تطبيق الخطة الخمسية.

وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1929 انهي ستالين تردده، وأعلن نهاية الزراعة الفردية المجزأة قائلا: "يدخل الفلاحون في الكولخوزات بقرى كاملة وكانتونات واقضية". أما ياكوفليف الذي قال قبل سنتين أن الكولخوزات ستبقى مدة طويلة "واحات بين أقسام الأرض المجزأة" فقد تلقى بصفته المفوض للزراعة أمر "تصفية الفلاحين الأغنياء كطبقة" ونشر الجماعية الكاملة "في أقصر وقت". وفي عام 1929 ارتفع عدد العائلات التابعة للكولخوزات من 1,7 بالمئة إلى 3,9 بالمئة، كما بلغت النسبة 23,6 بالمئة في عام 1930، و52,7 بالمئة في عام 1931، و61,5 بالمئة عام 1932.

لم يعد هنالك اليوم من يردد ببلاهة ثرثرة اللليبراليين، التي تقول أن الجماعية بمجملها كانت ثمرة العنف وحده. لقد ثار الفلاحون على سيادتهم خلال نضالهم عبر التاريخ من أجل الأرض، وانتقلوا أحيانا ليستعمروا مناطق عذراء؛ أو انشأوا بدعا دينية حلت للموجيك مشكلة ضيق الأرض بالسماوات الواسعة. وقد أصبحت مسالة تجميع الأرض في مزارع واسعة، منذ إنهاء الإقطاعيات الكبيرة وتوزيع الأرض إلى أقسام صغيرة، قضية حياة أو موت بالنسبة للزراعة والفلاحين والمجتمع بأسره.

لكن هذا الاعتبار التاريخي العام لم يحل المعضلة. ولم تكن الإمكانات الحقيقة للجماعية تتحدد بوضع الفلاحين البائس، ولا بالطاقة الإدارية للحكومة، بل قبل كل شيء بالموارد الإنتاجية المتوفرة، أي بمقدار ما تستطيع الصناعة أن تقدم من أدوات للمزارع الكبيرة. هذه المعطيات المادية كانت عمليا مفقودة. لقد تم تجهيز الكولخوزات بأدوات لا تفيد سوى الأراضي المجزأة. وتحقيق الجماعية بسرعة فائقة في مثل هذه الظروف، مغامرة اقتصادية مجهولة النتائج.

ولم تتمكن الدولة التي فاجأتها حدة هذا الانعطاف الذي قامت به من القيام بتحضير سياسي أولي للواقع الجديد. كانت السلطات المحلية تجهل تماما كما الفلاحون ما يتوجب عليها صنعه. وتوترت أعصاب الفلاحين اثر إشاعات تحدثت عن "مصادرة" المواشي، ولم يكن الأمر بعيدا عن الواقع كما سنرى. لقد تحققت الفكرة التي اتهمت بها المعارضة في الماضي لتشويه آرائها: فقامت البيروقراطية "بنهب الريف"، وأصبحت الجماعية بالنسبة للفلاح مرادفة للمصادرة الكاملة. ولم تشمل الجماعية الخيول والأبقار والخراف والخنازير فقط، بل وصغار أفراخ الدجاج أيضا. وكتب شاهد عيان في الخارج ما يلي: " كان يؤخذ من الكولاك كل شيء حتى أحذية الأطفال المصنوعة من اللباد". وقد نتج عن ذلك أن باع الفلاحون مواشيهم بالجملة وبأبخس الأسعار، أو ذبحوها ليستفيدوا من لحمها وجلدها.

وفي يناير 1930، رسم اندرييف عضو اللجنة المركزية في مؤتمر موسكو الصورة التالية للجماعية: فمن جهة، بدا أن حركة التجميع القوية التي عمت البلاد قاطبة "ستجتاح في طريقها كل الحواجز"، ومن جهة أخرى كانت مبادرة الفلاحين، عشية الانضمام إلى الكولخوز، إلى بيع أدواتهم ومواشيهم وبذارهم، بغية الربح، تتم "على نطاق واسع خطير". ويصف هذان التأكيدان المتناقضان الطابع المرضي للتجميع، هذا التدبير اليائس، وصفا صحيحا، منطلقين من وجهتي نظر متقابلتين. ولقد كتب المراقب الناقد الذي أشرنا إليه ما يلي: "إن التجميع الكامل قد أغرق الاقتصاد في بؤس لا مثيل له منذ زمن بعيد، حتى لكان حربا دامت سنوات ثلاث مرت من هناك".

لقد أرادت البيروقراطية أن تتجاهل 25 مليون عائلة من الفلاحين منعزلة وأنانية، كانت حتى البارحة، المحرك الوحيد للزراعة رغم ضعفها وهزالها الذي يشبه هزال حصان الموجيك، لتضع محلها بجرة قلم 200 ألف مجلس إدارة لكولخوزات محرومة من الوسائط التقنية والمعارف الزراعية، ولا تتمتع بدعم الفلاحين أنفسهم. ولم تلبث أن ظهرت النتائج المدمرة لهذه المغامرة وقد دام تأثيرها عدة سنوات. لقد كان محصول الحبوب في عام 1930 (835) مليون كنتال، فانخفض في السنتين التاليتين إلى أقل من 700 مليون. ومع أن هذا الفرق لا يبدو كارثة، إلا أنه كان يمثل بالضبط فقدان الكمية اللازمة من القمح لتموين المدن قبل أن تعتاد على حصص التموين لفترات المجاعة. ولم تكن زراعة النباتات الصناعية أحسن حالا، فقد كان إنتاج السكر قبل تطبيق الجماعية 109 ملايين بود، فهبط بعد سنتين، وفي ظل الجماعية الكاملة، إلى 48 مليون بود، بسبب نقص الشمندر، وأصاب الإعصار الأكثر تدميرا حيوانات الريف، فهبط عدد الخيول بنسبة 55 بالمئة، من 34,6 مليون في عام 1929 إلى 15,6 مليون في عام 1934. كما انخفض عدد الأبقار من 30,7 مليون إلى 19,5 مليون، أي بنسبة 40 بالمئة، والخنازير بنسبة 55 بالمئة، والخراف بنسبة 66 بالمئة. ولم تحدد الخسائر بالرجال – الناتجة عن الجوع والبرد والأوبئة وعمليات القمع – بدقة توازي دقة حساب الخسائر على مستوى المواشي، ولكن يمكن تقديرها أيضا بالملايين. ولا تعود مسؤولية هذا على الجماعية، بل على الأساليب العمياء الاعتباطية العنيفة التي رافقت تطبيق الجماعية. ولم تبادر البيروقراطية إلى حسبان حساب أي شيء مسبقا. ولم ينشر قانون تنظيم الكولخوزات، الذي حاول أن يربط منفعة الفلاح الفردية بالنفع العام، إلا بعد أن نهب الريف بشكل وحشي.

وشكلت محاولة الهروب من نتائج سياسة أعوام 1923– 1928 أساس التسرع بتطبيق هذه السياسة الجديدة. وعلى الرغم من ذلك فقد كان بإمكان الجماعية أن تخطو بوتيرة أكثر عقلانية ووفقا لأشكال أكثر اتزانا. فالبيروقراطية الماسكة بزمام السلطة والصناعة قادرة على تنظيمها دون أن تدفع البلاد إلى حافة الهاوية. كما كان من الممكن والضروري أيضا السير بسرعة تتلاءم مع موارد البلاد المادية والمعنوية. لقد كتبت "المعارضة اليسارية" في نشرتها الصادرة في الخارج عام 1930 ما يلي: "يمكن في ظروف داخلية وعالمية ملائمة تحويل حالة الزراعة المادية والتقنية بصورة جذرية وإرساء قواعد للجماعية على صعيد الإنتاج خلال مهلة تتراوح بين 10 و15 سنة. ولكن سلطة السوفيات ستكون أثناء هذه الفترة معرضة للإطاحة عدة مرات".

ولكم يكن هذا التحذير مبالغا به حيث أن ريح الفناء لم تهب على ثورة أوكتوبر عنيفة كاسحة مثل أيام الجماعية الكاملة. لقد مزق التذمر، والقلق، وعمليات الإرهاب البلاد بأسرها. كما عاد جو الحرب الأهلية إلى الأذهان بفعل فوضى النظام المالي؛ وتضارب أسعار الحد الأقصى التي حددتها الدولة مع الأسعار "المتعارف عليها" وأسعار السوق الحرة؛ والانتقال من ظاهر التجارة بين الدولة والفلاحين إلى ضرائب تتمثل بمقادير من الحبوب واللحوم والألبان؛ والصراع المرير ضد السرقات المتواصلة لممتلكات الكولخوزات وإخفاء هذه السرقات؛ والاستنفار العسكري للحزب ضد محاولات التخريب التي يقوم بها الكولاك بعد تصفيتهم كطبقة؛ والعودة إلى بطاقة التموين وحصص المجاعة؛ وأخيرا تنظيم جوازات السفر الداخلية.

وساءت عملية تموين المصانع بالمواد الأولية من فصل لفصل، وأدت ظروف الحياة القاسية إلى ميوعة اليد العاملة والتقصير في العمل والإهمال وتخريب الآلات، وارتفاع نسبة العيوب في الإنتاج ووقعه في رداءة النوعية. هذا وقد انخفض مردود العمل في عام 1931 بنسبة 11,7 بالمئة. وصرح مولوتوف في عام 1932 تصريحا نقلته الصحافة السوفييتية عن ازدياد الإنتاج الصناعي بمقدار 8,5 بالمئة فقط بدلا من نسبة 36 بالمئة المحددة بالخطة. ثم أعلنت البيروقراطية أنه تم تنفيذ الخطة الخمسية في 4 سنوات و3 أشهر، وهذا دليل على أن استهتارها واحتقارها للرأي العام والإحصاءات ليس لهما حدود. والأهم من ذلك أن الأمر لم يكن يتعلق بالخطة الخمسية، فحسب بل بمصير النظام كله.

لقد صمد النظام رغم كل شيء بفضل جذوره الجماهيرية العميقة وبسبب ظروف خارجية ملائمة. لقد وصلت الحالة بالاتحاد السوفياتي في سنوات الفوضى الاقتصادية والحرب الأهلية في الريف إلى درجة كاملة من الشلل أمام كل عدوان خارجي. وامتد تذمر الفلاحين إلى الجيش، وأفقد انعدام الأمن وغياب الاستقرار البيروقراطية وكادراتها القيادية معنوياتها. ولو وقع في هذه الفترة عدوان في الشرق أو الغرب لكان له نتائج وخيمة حاسمة.

لقد غرق العالم الرأسمالي، لحسن الحظ، خلال السنوات الأولى من الأزمة الصناعية والتجارية في حالة انتظار مبلبلة. ولم يكن هناك من يرغب بالحرب أو يجرؤ عليها. كما أنه لم يكن لدى أعداء الاتحاد السوفياتي صورة واضحة عن مدى خطورة الاضطراب الاجتماعي الذي كان يجتاح البلاد، بفعل الموسيقى الصاخبة للجوقات الرسمية على شرف "الخط العام".

تبين دراستنا التاريخية، رغم اقتضابها، كيف أن اللوحة المثالية عن سلسلة متعاقبة من النجاحات كانت أمرا بعيدا عن التطور الحقيقي للدولة العمالية. وسيفيدنا الماضي المليء بالأزمات في الكشف عن معلومات تنفع في المستقبل. كما أن دراسة تاريخية لسياسة حكومة السوفيات الاقتصادية وتقلباتها، تبدو لنا ضرورية للقضاء على عبادة الفرد، التي تبحث عن أسباب النجاح الحقيقية أو الكاذبة في صفات الزعماء الخارقة، بدلا من أن تبحث عنها في ظروف الملكية الاشتراكية التي خلقتها الثورة.

تظهر ميزات النظام الاجتماعي الجديد طبعا من خلال أساليب القيادة، لكن هذه الأساليب تعبر كذلك عن الحالة الاقتصادية والثقافية المتأخرة للبلاد وعن محيط البرجوازية الإقليمية حيث تكونت الكادرات الحاكمة.

من عظيم الخطأ أن نستنتج من هذا أن سياسة الحكام السوفيات عامل قليل الأهمية، إذ ليس في العالم حكومة تمسك بين يديها مصائر بلاد ما إلى الحد الذي تبلغه الحكومة السوفياتية. إن نجاح أو فشل أحد الرأسماليين يتوقف إلى حد كبير، وأحيانا بصورة حاسمة، على صفاته الشخصية. أما الحكومة السوفياتية فقد وضعت نفسها بالنسبة للنظام الاقتصادي في الموقع ذاته الذي يحتله الرأسمالي حيال مشروعه. إن مركزة الاقتصاد تجعل من السلطة عاملا كبير الأهمية. لهذا يجب أن لا نحكم على سياسة الحكومة بناء على موازنات مبسطة، أو على أرقام الإحصاء المجردة، بل طبقا لدورها المتمثل في التوقع الواعي والقيادة المخططة، المؤدي إلى انجاز هذه النتائج.

لقد عبَّرت تعرجات سياسة الحكومة عن تناقضات الوضع، كما عن عجز الحكام عن فهم هذه التناقضات بشكل كاف، والتصرف حيالها بتدابير وقائية. إن من الصعب إخضاع أخطاء القادة إلى تقديرات حسابية، ولكن شكل التعرجات يسمح لنا بان نستنتج العبء المالي الإضافي الكبير الذي فرضته هذه الأخطاء على الاقتصاد السوفياتي.

تبقى مسألة غير مفهومة – على الأقل عند الاقتراب العقلاني من التاريخ – وهي كيف ولماذا استطاع التكتل الأكثر افتقارا للأفكار والأكثر أخطاء أن ينتصر على بقية الجماعات، ويركز بين يديه سلطة غير محدودة. إن التحليل اللاحق سيكشف لنا مفتاح هذه المعضلة. وسنرى كيف تدخل الأساليب البيروقراطية للقيادة المطلقة في تعارضات كثيرة مع متطلبات الاقتصاد والثقافة، وما يسببه ذلك من أزمات، وهزات جديدة في تطور الاتحاد السوفياتي.

لكن علينا قبل أن نحلل الدور المزدوج للبيروقراطية "الاشتراكية" أن نرد على السؤال التالي: ما هو إذن، وزن المكتسبات العام ؟ وهل تحققت الاشتراكية حقا ؟ أو على الأقل هل تستطيع النجاحات الاقتصادية والثقافية الحالية، أن تقينا من خطر عودة الرأسمالية، مثلما أن المجتمع البرجوازي وجد نفسه في مرحلة معينة من تطوره محميا بنجاحاته ضد عودة الإقطاع والقنانة ؟


1. الموجيك: الفلاح الروسي. (المعرب)
 

2. كان ممثل المعارضة اليسارية انذاك مؤلف هذا الكتاب نفسه.
 

3. المقصود هو تروتسكي نفسه.
 

4. وحدة العملة في الاتحاد السوفييتي من 1922 إلى 1924. وهي عملة ثابتة برزت بعد أن انخفضت قيمة الروبل انخفاضا كبيرا. (المعرب)
 

5. البود: وحدة قياس قديمة تعادل 16,800 كلغ. (المعرب)