وضع عالمي جديد
(مقرر المؤتمر العالمي الخامس عشر للأممية الرابعة - فبراير 2003)

 


أولا: طور جديد في مسار الحركة العمالية والاجتماعية

1. الطور الجديد

تمثل نهاية سنوات 90 انعطافا بالوضع السياسي العالمي. إن طورا سياسيا جديدا قد بدأ، ويضع على جدول الأعمال تجددا جذريا لنشاط وبرنامج واستراتيجية وتنظيم الحركة العمالية والاجتماعية. وهذا الانعطاف نتاج عوامل عديدة:

تطور التناقضات الداخلية لنمط التراكم الرأسمالي المعولم الجديد.

أشكال المقاومة الاجتماعية ضد هجوم الطبقات السائدة.

بروز موجة تجذر جديدة من خلال حركات مناهضة للعولمة الرأسمالية، لاسيما في جملة قطاعات شابة.

تجذر للفلاحين والهنود والشباب بأمريكا اللاتينية يغير موازين القوى. وتمثل الحكومات الجديدة في البرازيل وإكواتور، والاختراق الانتخابي في بوليفيا، وتجذر حكومة هوغو تشافيز، والتعبئات بالأرجنتين وبيرو، حججا على التقلقل السياسي والاجتماعي المميز لهذا الانتقال نحو مواجهات طبقية أكبر. وتتمثل المفارقة، التي تستلزم منا حلا، في كون هذا التجذر يجري في وضع ضعف اليسار الثوري.

ولا تبطل هذه العوامل الميول الوازنة التي بدأت، في النصف الثاني من سنوات 70، بهزيمة حالات المد (شبه) الثوري واستدارة موجة التوسع الرأسمالية الطويلة: أتاح هذان العاملان الهجوم النيوليبرالي في سنوات 80، وإعادة ترتيب جديدة للعالم من طرف الطبقات السائدة سُميت « عولمة رأسمالية »، وتدهورا جديدا لميزان القوى لغير صالح الطبقة العاملة، وأزمة غير مسبوقة في الوعي الطبقي وفي تنظيم الحركة العمالية وفي التيارين اللذين هيمنا عليها طيلة القرن العشرين، الاشتراكية-الديمقراطية والستالينية، وذلك من جراء انهيار البيروقراطية الستالينية وإعادة الرأسمالية إلى الشرق.

لكن الوضع الراهن بات مغايرا بجلاء لوضع بداية سنوات 90. ويتفاوت اندفاع الحركة العمالية والاجتماعية، مرتديا أشكالا متباينة حسب الأوضاع السياسية القومية، لكن ثمة بلا مراء، وأيا كان الظرف، تغير للمناخ الاجتماعي والأيديولوجي. ويشجع هذا الاندفاع انبثاق تيارات معادية للرأسمالية/معادية للإمبريالية، على الصعيدين الاجتماعي والنقابي كما السياسي على السواء.

 

2. طور انتقالي

شهد الوضع العالمي تغيرا مرموقا. تندرج السمات الراهنة للمرحلة في تناقضات وضع انتقالي، من نظام مطبوع بدور هام للدولة، وبالتعاون الطبقي الممأسس، وبحركة عمالية تحت سيطرة الإصلاحيين الاشتراكيين-الديمقراطيين أو ستالينيي المنشأ، إلى رأسمالية جديدة ومؤسسات سياسية جديدة ودورة عضوية جديدة للحركة العمالية وحركات اجتماعية جديدة.
يتميز هذا الوضع الانتقالي بما يلي:

تعزز سعي الإمبريالية الأمريكية للسيطرة، المتجلي في تعاقب حروب وتدخلات رامية إلى التحكم في الكوكب.

مواصلة هجوم الطبقات السائدة، لكن هذا الهجوم بات يصطدم بعوائق اقتصادية واجتماعية كبيرة.

النمو الهائل لقوة البرجوازية اقتصاديا وعسكريا، مع أزمة في أشكال السيطرة السياسية-المؤسسية لا سيما على الصعيد الدولي.

تطور متناقض لميزان القوى: ضرب مكاسب اجتماعية بفعل تفكيك القوانين، إلى جانب مقاومات وعمليات إعادة تشكل نضالات وبؤر كفاحية.

تحول اشتراكي-ليبرالي للقطاعات المسيطرة في الحركة العمالية والاجتماعية التقليدية يضعف إجمالا مواقعها، لكن أزمتها التاريخية تفتح المساحات الأولى بوجه تجارب جديدة خارج تحكم الأجهزة الاشتراكية-الديمقراطية وستالينية المنشأ.

نزعة جذرية جديدة في المطالب وأشكال النضال والحركات، لكن ثمة مصاعب في تشكل وعي مناهض للرأسمالية وفي بناء بديل سياسي.

 

3. وضع البروليتاريا العالمية ودور النساء

يتمثل الانشغال الأساسي للجماهير العمالية بالدول البيروقراطية السابقة في النضال من اجل بقائها المادي اليومي، بينما تظل الحركة العمالية جنينية ومشذرة. وفي البلدان التابعة نويات منتجة قارة حيث تتعرض طبقة عاملة، بلا حقوق ولا قوانين اجتماعية، لفرط استغلال محاطة بجماهير شعبية رازحة في فقر مدقع غير مسبوق من جراء تدمير العلاقات الاجتماعية. وفي المشاغل السرية تُفضل نساء فتيات ُيعانين داخلها من مشاكل صحية وانعدام أمان وتحرش جنسي مستمر. وتتعرض نساء تلك المشاغل للإجهاض بمعدل يمثل ضعف نظيره لدى عاملات قطاعات أخرى، ويلدن أطفالا أخف كثيرا ومصابين بتشوهات. وبفعل قلة العمل المأجور، اضطرت نساء الطبقة العاملة إلى اللجوء إلى القطاع « اللاشكلي »، لا سيما المشاركة (بخاصة تحت الإكراه) بالتجارة الجنسية الداخلية والدولية. وتتمثل أحد الأوجه المقلقة لعمل الفتيان، لا سيما ببلدان الأطراف، في مشاركة الأطفال. حيث أن أكثر من 110 مليون بنت،أعمارهن بين 4 و14 سنة،أجيرات. ويتأثرن أكثر من غيرهن بكل ما تواجه النساء من مشاكل: اغتصاب وتحرش جنسي، وشروط عمل غير صحية وخطيرة، وعنف منزلي ومتاجرة قصد الاستعباد أو الدعارة. ويجري كل سنة جر مليون طفل إلى الدعارة وأغلبيتهم بنات.

وفي البلدان الإمبريالية، وبوجه خاص الاتحاد الأوربي، نجحت الرأسمالية، أول مرة منذ نصف قرن، في(إعادة) خلق وضع انعدام أمان اجتماعي شبه عام. شمل الاستخدام والأجر والدخل العوض (بطالة، مرض، عجز، زمانة)، والإفادة من تعليم جيد ومن العناية الصحية. ويتعرض العمال غير العاطلين لإعادة النظر في المكاسب الاجتماعية، وحقوق العمل والعمال، وتعميم المرونة والهشاشة، والتقشف في الأجور، وتفريد سيرورات العمل والأجور، وانخفاض عدد المنتمين للحركة النقابية في الحواضر الإمبريالية. وقد طالت هذه التراجعات الجزئية ملايين العمال.

تمثل النساء 70% من فقراء العالم. وتجاوزت نسبتهن من السكان النشيطين 50% بأغلب البلدان الصناعية، أو هي مقبلة على ذلك في القريب. ورغم تقدم عدد ضئيل في مساره المهني، تظل غالبية النساء حبيسات قطاعات اقتصادية سيئة الأجر. وبالولايات المتحدة الأمريكية تعيش النساء، المحرومات من تعويضات طبية ومن أنظمة نقل عام ومن حضانات بأثمان يسيرة المنال، تحت خط الفقر ولو حصلن على عملين أو ثلاث بدوام جزئي. يزداد تفاوت الأجر بين العمال والعاملات ولم تتحقق المساواة إلا في الأجر الأدنى. وتشكل النساء أكثرية اليد العاملة بفروع عديدة بالقطاع العام، وغالبية العاملين بدوام جزئي أو بعقد. وتعاني غالبية النساء من التحرش الجنسي، سواء كان الرجل رب عمل أو زميل أو حتى ممثل نقابي. وبسوق العمل الراهن، تعاني النساء بشكل كبير البطالة منذ تقليص النيوليبرالية للخدمات العامة أو خصخصتها. علاوة على تأثر النساء الأشد بفقد الخدمات العامة لأنهن الأحوج بفعل دورهن ومسؤوليتهن في الأسرة.

لكن، بوجه أعم، تفضي تناقضات الطور الحالي للنظام الرأسمالي، الذي قد يجمع البطالة وإضفاء الهشاشة على قوة العمل، إلى نضالات وحركات جزئية دفاعا عن المكاسب الاجتماعية ورفضا للتسريح وطلبا لرفع الأجور والتعويضات الاجتماعية والمعاشات.

أخيرا ثمة ظاهرة هامة متمثلة في استقبال عملية الإنتاج لملايين الشباب. ملايين تعوزها ذاكرة نضالات الحركة العمالية وتاريخها من جهة، لكنها من جهة أخرى « غير مثقلة بهزائم الماضي » ومستعدة للنضال والتنظيم وفق طرائقها الخاصة.

في هذا الإطار، تسير العقبة الستالينية إلى زوال، لكن دون إعادة الشرعية للمشروع الاشتراكي. وفي الوقت ذاته، يظل آلاف المناضلين والكوادر، بقطاعات الجمعيات والنقابات، الذين لم ُيمنوا بهزائم تاريخية، مستعدين لإنعاش أو خلق شروط إعادة تشكل الحركة العمالية والحركات الاجتماعية حول محاور جديدة.

 

4. مشاركة الشباب في المقاومة الشاملة

ارتفعت موجة تجذر وتسُيس جديدة للشبيبة من خلال الحركة المناهضة للعولمة. وهي تشكل عنصرا أساسيا للوضع السياسي والأيديولوجي الجديد ولتجدد الحركة العمالية والثورية.

مثلت التعبئة المذهلة في سياتل (نوفمبر 1999)، والمواجهة غير المسبوقة في جنوة ضد قمة مجموعة الدول الثمانية الكبرى، انعطافا في المقاومات المناهضة للعولمة النيوليبرالية. كان هذا الاختراق العالمي للحركة المناهضة للعولمة ثمرة جملة تعبئات أقل بروزا في مناخ الانكفاء الأيديولوجي والاستكانة النضالية في سنوات 90. لكنه خلق نزعة أممية جديدة وحركات جديدة، بالمواجهة المنهجية لاجتماعات قمم المؤسسات الدولية للإمبريالية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، مجموعة السبعة الكبار، الاتحاد الأوربي ...) في الشارع وفي اجتماعات القمم المضادة، وببداية عمليات تجمع دولية يمثل المنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو الليغري ( يناير 2002) أوجها الراهن.

باتت هذه الحركة، منذ اليوم، تؤثر على أطر من الحركة العمالية والاجتماعية على الصعيد الوطني، بتقديم بداية بديل فيما يخص تحليل الوضع العالمي والمطالب ومنظور مجتمع « آخر ». وهي بوجه خاص القوة المحركة لتجذر الشبيبة وتسيسها المستجدين. لم تكف الشبيبة يوما عن الالتزام و« الاهتمام بالسياسة » بأوسع معنى – من خلال مناهضة الفاشية/مناهضة العنصرية، والدفاع عن البيئة، ومناصرة العالم الثالث، والنزعة الإنسانية، وكبريات المسائل الأخلاقية للبشرية. لكنها كانت مطبوعة جدا برفض للسياسة بوجه عام، ولم تعد تتماهى مع الطبقة العاملة، وتشيح بأنظارها عن الماركسية وعن المنظمات الثورية.

وخارج بلدان المركز الرأسمالي، تتنظم الشبيبة في حركات الفلاحين وحركات السكان الأهليين والحركات الطلابية والنقابية وحركات العاطلين، ردا على الإجراءات النيوليبرالية الملموسة. انها مشاركة هامة لكن غير كافية لإزاحة القيادات القديمة.

ويخلق شباب آخرون أشكال جنينية، محلية في الغالب، من المشاركة التي لا تنتمي دوما إلى الحركة المناهضة للعولمة الرأسمالية، وذلك عبر مقترحات اقتصاد متضامن ومشاريع منظمات غير حكومية مرتبطة بالنضال الاجتماعي الأعم.

لا تعبر هذه الشبيبة المتجذرة عن حاجاتها وتطلعاتها الخاصة ضد مجتمع غير عادل وحسب، بل تبدي أيضا التزاما إزاء المجتمع بقصد تغييره. ومن ثمة قفزة إلى أمام في الوعي (المعادي للرأسمالية) وأشكال النضال (اكثر جذرية) والمطالب (اكثر شمولية) والالتزام (اكثر كفاحية). إنها في طليعة الطور الجديد.

 

5-التحول « النيوليبرالي » للاشتراكية الديمقراطية والشعبوية

يمثل الطور السياسي الجديد امتحانا لمشاريع وبرامج الاشتراكية-الديمقراطية. وقد يمنح هوامش مناورة للأفرقة الحكومية في لعبتها مع أحزاب اليمين التقليدي، لكنه يؤكد عمق سيرورة التحول الاشتراكي-الليبرالي للأحزاب الاشتراكية. تخلت الأحزاب الاشتراكية عن كل سياسة كينزية أو كينزية جديدة. وتهيبًا من أي مواجهة جدية مع أرباب العمل والطبقات السائدة، تبنت القيادات الاشتراكية-الديمقراطية السياسة الليبرالية، مضيفة نبرة اجتماعية ضئيلة. وابعد من ذلك، يتعلق الأمر بمراجعة سياسية-إيديولوجية عميقة لدى تلك الأحزاب.
اتخذ ذلك وجها خاصا في أوربا بالمشاركة في الحكومات، بتزامن وطيلة سنوات عديدة في ثلاثة عشر من بلدان الاتحاد الأوربي الخمسة عشر. واندرجت بتباين ضئيل في إطار الخيارات الاستراتيجية للطبقات السائدة، كما أكدت ذلك توجهاتها الاجتماعية-الاقتصادية ومشاركتها دون تحفظ في الحروب الثلاثة التي شنتها الإمبريالية في العقد الأخير(العراق – يوغوسلافيا – أفغانستان).

وبغض النظر عن الخصوصيات الجلية، تفرض اعتبارات مماثلة نفسها بصدد أحزاب اليسار ويسار الوسط (شعبوية معادية للإمبريالية) في بلدان أمريكا اللاتينية. ومن جهة أخرى دخلت الأحزاب ستالينية المنشأ، التي لا تختلف في الغالب مقاربتها الاستراتيجية وممارستها في الحركة الجماهيرية عن تلك الخاصتين بالاشتراكيين-الديمقراطيين، في أزمة وجود هي أيضا.

فعشرون سنة من سياسة معادية للمكاسب الاجتماعية نالت على نحو عميق من علاقات هذه المنظمات بقواعدها الاجتماعية. والنتيجة تراجع جذري غير مسبوق في حظوتها وتحكمها الاجتماعي وتأطيرها التنظيمي إزاء البروليتاريا والشبيبة التقدمية. ومن ثمة مساحة سياسية واجتماعية وانتخابية متاحة للتيارات والحركات والأحزاب الراديكالية/المعادية للرأسمالية، لتعلن عن نفسها، وتكسب صدى واسعا في المجتمع، وتصبح عاملا هاما في الحركة العمالية والاجتماعية.

 

6. انتعاش الحركة الجماهيرية واليسار المعادي للرأسمالية

على هذه الخلفية ظهر في نهاية سنوات90 وضع سياسي-إيديولوجي جديد. لم يخرج من عدم، بل نتج عن تراكم الاستياء وتطور الوعي وانتعاش التضامن ونضالات كبيرة، لكنها انتهت جميعا إلى مأزق أو فشل أو هزيمة، منها مثلا إضراب ملاحي الطيران وإضراب UPS [6] بالولايات المتحدة الأمريكية، والإضرابات العامة الوطنية أو القطاعية بأوربا، وفي بريطانيا(عمال المناجم 1984-1985)، وبالدانمارك(إضراب عام في 1986)، وببلجيكا(1986 ثم الخدمات العامة سنة 1987، إضراب عام سنة 1993، وإضراب كامن بالتعليم طيلة سنتين)، وبالدولة الإسبانية(إضرابات عامة في بداية سنوات 90)، وفي إيطاليا(1992-1994). وشهدت ايكواتور والبرازيل وبوليفيا في أمريكا اللاتينية، وكوريا الجنوبية وإندونيسيا بآسيا، حركات جماهيرية ونضالات عمالية كبيرة. وأبانت مسيرة النساء من أجل الخبز والورود في كبيك عام 1995 عن تجدد قدرة حركة النساء على التعبئة من أجل مطالب نسوية. وسيكون للمسيرة أثر مباشر على تجذر قطاع من حركة النساء تؤطره الأمم المتحدة في شكل منظمات غير حكومية.

وفي أوربا كانت تعبئة النساء الجماهيرية ضد الهجمات على حق الإجهاض، بموازاة الإضراب ضد حكومة جوبيه بفرنسا، أول تجليات هذا التغير. ومع « المسيرة الأوربية للعاطلين وضحايا الهشاشة والإقصاء » نحو أمستردام ( يونيو/حزيران 1997)، بدأ تبدل الحالة الذهنية بالأوساط المناضلة بفرنسا وبأوربا. وانضمت إليها مبادرات أخرى مباشرة، كانت جارية، مثل حملة إلغاء ديون العالم الثالث وبعض حركات الفلاحين الكفاحية جدا (بالهند والبرازيل، الخ). شقت المواجهة بسياتل في نوفمبر 1999 الطريق نحو « الحركة المناهضة للعولمة » المتجمعة في بورتو الليغري، بالمنتدى الاجتماعي الأول، الذي حركته روح هجومية أممية ومعادية للرأسمالية كمونا ويحمله جيل جديد. كما كانت تعبيرا عن هذه الروح الأممية الراديكالية المسيرُة العالمية للنساء، التي انطلق تحضيرها قبل سياتل بكثير، بناء على نقد مؤتمر الأمم المتحدة حول النساء في بكين. وفي أمريكا الشمالية تلت روح سياتل تعبئة ضد منطقة التبادل الحر بدول أمريكا في كبيك في شهر أبريل 2001.

ولأول مرة نجحت هذه الحركة في جنوة في الانصهار بقطاعات كفاحية من الحركة النقابية الجماهيرية خلال مواجهة مباشرة مع الحكومة وسياستها النيوليبرالية. وتمكنت بعد 11 سبتمبر من التحول بسرعة، وبأشكال خاصة حسب البلدان، إلى حركة مناهضة للحرب تضم مئات آلاف المتظاهرين في العالم برمته ضد الحرب الإمبريالية في أفغانستان. كما شكلت إحدى الركائز السياسية والتنظيمية للتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي سحقته دولة إسرائيل.

وتطور ظرف اجتماعي-سياسي جديد ببعض البلدان، كإسبانيا وإيطاليا،حيث حفزت« حركة الحركات » على نحو مباشر نضالات عالم الشغل. وخلقت إطارا سياسيا جديدا، وسعيا هجوميا، ومنظورا جديدا، وجنين بديل للنضالات الاجتماعية الدفاعية التي لم تكف أبدا طوال المرحلة السابقة. وتظل لحد الساعة محرك المواجهة مع الرأسمالية. لكن ما تزال الحركة النقابية « التقليدية »، المصابة بضعف تنظيمي والمعزولة اجتماعيا، تنظم ملايين العمال والعاملات ومئات آلاف المناضلين. كما أن الإضرابات العامة وأعمال التعبئة المواطنة الهائلة بإيطاليا وإسبانيا واليونان، والانطلاق الجديد للإضرابات القطاعية بألمانيا، تدفع إلى مقدمة الساحة الأجراء يدا في يد مع شرائح اجتماعية وحركات اجتماعية أخرى.

وفي الأرجنتين انبثقت الانتفاضة نصف-الثورية مباشرة من أزمة انهيار أقسام بكاملها من الحياة الاقتصادية من جراء تطبيق مستديم للوصفات النيوليبرالية. وفي هذه الحالة، كانت المعركة لاجل البقاء على قيد الحياة هي التي حدت الطبقة العاملة والفقراء (والطبقات الوسطى أيضا) على النضال والتنظيم الذاتي. وتصطدم هذه التعبئة ضد السياسة النيوليبرالية الفظة بالعولمة الرأسمالية مباشرة بواسطة المنشآت الأجنبية متعددة الجنسية وصندوق النقد الدولي والتدخل الدائم للإمبريالية الأمريكية. ويمثل الأرجنتينازوالمفجر بأمريكا اللاتينية حيث تزدهر الحركة الجماهيرية ببلدان عديدة (فنزويلا،أوروغواي، باراغواي، بيرو...).

وتمثل حركة الفلاحين أحد أهم فاعلي هذه التعبئة المعادية للرأسمالية. وتقوم حركة معدومي الأرض MST بالبرازيل، والكونفدرالية الوطنية للسكان الأهليين بإكواتورCONAIE ، وكونفدرالية الفلاحين الفرنسية، وحركات أخرى منظمة في الشبكة الدولية بيا كامبيسينا Via Campesina (الطريق القروي)، بدور أساسي في المعركة ضد المنظمة العالمية للتجارة والنظام التجاري النيوليبرالي. هذا دون الحديث عن حركة الفلاحين والأهليين في تشاياباس، يقيادة الجيش الزاباتي للتحرير الوطني، الذي كان طليعة النضال المعادي لليبرالية بإقدامه سنة 1996 على تنظيم المؤتمر الدولي ضد الليبرالية ومن اجل الإنسانية.

وبالقارة الأفريقية، غالبا ما اكتست التعبئة ضد النيوليبرالية ونتائجها شكل لقاءات واسعة، مثل قمة إلغاء الديون في دكار في ديسمبر 2000، والقمة المضادة لقمة الثمانية الكبار وضد نيباد [7] NEPAD في سيبي عام 2002، والتعبئات الاجتماعية الكبرى حول القمة العالمية من أجل تنمية ممكنة الاحتمال soutenable في جهانسبورغ عام 2002.

يندرج انتعاش وإعادة بناء الحركة العمالية والاجتماعية العالمية في « الصراع الطبقي » وفي تطورالنضالات العمالية، لكن كذلك في « الحركة المناهضة للعولمة » ومبادرات المواطنين المباشرة، وكذا مبادرات المنظمات المعادية للإمبريالية والمعادية للرأسمالية والثورية داخلها. وقد قامت النساء بدور كبير في النضال من اجل العدالة الاجتماعية في فترة لامساواة ومعاملة فظة متناميين. وقد تنظمن في شتى أنواع شتى الجماعات ومنظمات النساء لمعارضة الحرب والقمع وعالم يعدم كل إمكانية غير العلاقات الرأسمالية. فقد قمن، على سبيل المثال، بدور مركزي في النضال ضد السلفية الدينية. وبوجه خاص تعبأت نساء بالهند للتنديد بالهجمات على النساء المسلمات من طرف منظمات هندوسية يمينية تابعة لحكومة حزب الشعب الهندي [8] BJP في غوراجات ، وواجهت نساء في أفغانستان الطالبان. كما تعبأت نساء ضد الأصولية المسيحية في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا دفاعا عن مصحات النساء وضد « مفارز الإجهاض ». يستحيل، من غير الاعتماد على هذه القوة الاجتماعية الاكثروية بالبلد، المتمثلة في طبقة الأجراء، ودون هذه النضالات الجماهيرية من أجل مطالبها الخاصة ومطامحها، ودون تنظيمها الذاتي المتنامي، وقف العولمة الرأسمالية والسياسة النيوليبرالية وسياسة الحرب.

يجب أن تولي إعادة بناء الحركة الجماهيرية واليسار اهتماما للوجود الحاسم للفلاحين والأهليين ببلدان أمريكا اللاتينية، مثل البرازيل وباراغواي وبوليفيا وإيكواتور والمكسيك، في باراغواي حيث يلاحظ صعود التعبئة والنضال من أجل الأرض، وفي البرازيل مع وجود حركة معدومي الأرض المطالبة بإصلاح زراعي جذري. وفي بوليفيا مع نضال الفلاحين منتجي الكوكا، والاختراق الانتخابي الذي حققته الحركة من أجل الاشتراكية، وفي ايكواتور مع الكونفدرالية الوطنية للأهليين CONAIE بواسطة تعبيرها السياسي حركة البلد الجديد Pachakutic المشاركة بالحكومة الحالية والمشكلة لجبهة نضال ضد النيوليبرالية.

يمهد صعود المواجهة الاجتماعية والسياسية المذهل هذا لمنظورات جديدة من أجل يسار معاد للرأسمالية، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي-الحزبي على السواء.

 


ثانيا:الحرب والهجوم الإمبريالي المضاد الجديد

1- هجوم القاعدة و« الحرب على الإرهاب »

(1) على أثر الهجوم الإرهابي يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 شنت الإمبريالية الأمريكية هجوما مضادا واسع النطاق، سيطبع بقوة الوضع العالمي في السنوات المقبلة. وعلاوة على هذه الصدمة القيامية، ستظهر أهميته الحقيقية بقدر ما ستصطدم« الحرب الطويلة ضد الإرهاب العالمي » بما سينتصب على طريقها من عقبات وتناقضات ومقاومات ومعارضات.

(2) يندرج العدوان الأمريكي على أفغانستان، الذي بدا انتقاما عسكريا من شعب بكامله باسم معاقبة طبقته الحاكمة، في إطار الحروب الإمبريالية منذ 1991(ضد شعبي العراق وصربيا)، مؤكدا سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى الهيمنة وإلى التدخل فيما بعد الحرب الباردة. وكانت ترمي، والحالة هذه، إلى القضاء على التيار السلفي من طراز بن لادن، رغم دفاع هذا الأخير عن الرأسمالية وارتباطه بأقسام بورجوازية وبقطاعات شتى أجهزة الدولة الرجعية مثل الملكية السعودية والديكتاتوريتين الباكستانية والسودانية. إن خطاب هذا التيار السياسي مطبوع بالتعصب الديني، ومحارب للغرب لا للإمبريالية، ومعاد للسامية لا للصهيونية، ومناهض للحقوق الديمقراطية الأساسية وللمساواة لصالح النساء ويسعى إلى إقامة نظام تيوقراطي فائق الرجعية. وقد كان النفط على الدوام حافزا أساسيا للسياسة الإمبريالية في هذا القسم من العالم.

 

2- أهداف الحرب الأمريكية.

لم ينقذ 11 سبتمبر رئاسة منتخبة في شروط متنازع فيها، معزولة ومؤمنة بشكل سيئ وحسب، بل أتاح إضفاء الشرعية على هجوم عالمي للولايات المتحدة الأمريكية ما كان واضعو الإستراتيجية الأمريكية يجرؤون عليه حتى بأحلامهم. وبعد 11 سبتمبر، انتقلت الإدارة الجمهورية اليمينية،المستندة إلى شركات البترول الضخمة، من إدارة ضعيفة ذات أفكار كبيرة إلى إدارة قادرة على استعمال قوتها العسكرية في الوقت والمكان الذي تشاء للدفاع عن المصالح الاستراتيجية الأمريكية. على هذا النحو جرى شن الحرب ضد الإرهاب. وأُعلن في وجه العالم: هل أنت معنا او مع الإرهابيين ؟ وبات الخطر صادرا الآن من « الدول المارقة ». والولايات المتحدة هي من سيضع قائمتها ويقرر مصيرها. وأسقط غزو أفغانستان من القتلى عددا يفوق عدد ضحايا 11 سبتمبر.

وبعد النصر العسكري السريع على طالبان، كان مؤدى الدرس الذي استخلصته« الطغمة البترولية »، كما ُسميت، أن عمليات القصف فعالة ويجب مواصلتها. هكذا شهدنا تصعيدا لأهداف الحرب الأمريكية مع تصريح بوش حول« محور الشر » في خطابه حول حالة الاتحاد، حيث فسر بجلاء ومن غير لبس الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية وأكد، علاوة على توسيع سياسة « تغيير النظام »، أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بمنازعة تفوقها العسكري أو معادلته. ومن الآن فصاعدا ستطيح الولايات المتحدة كل الأنظمة المعرقلة لمصالحها.

ويمثل العراق ثاني بلد على قائمة عمليات الاجتياح. ولم ُتثبت أي علاقة مع القاعدة لأنها على الأرجح منعدمة. وحدد الهدف في إزالة أسلحة « الدمار الشامل »،المنعدمة على الأرجح هي أيضا. يتعذر إثبات العكس وجرى تقديم هذا المتطلب كباعث لشن الحرب. وكان المغزى الموجه إلى العالم هو التالي: إذا لم تصدقونا بعد الحرب في أفغانستان لما كنا نقول إننا سنغير العالم طبقا لمصالحنا، فانتم ستصدقوننا بعد هزم العراق. إن الولايات المتحدة عاقدة العزم على استعمال قوتها العسكرية الدائمة لاعادة تنظيم واعادة صوغ العالم طبقا للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية للإمبريالية الأمريكية.

لا تكمن فائدة غزو العراق في عواقبه السياسية وحسب، بل أيضا في ثروة البترول الهائلة بالبلد. وحتى إن لم يكن البترول هدف الحرب النهائي، تجب معرفة أن لدى العراق ثاني مخزون بترول بالعالم، وانه غير مستغل نسبيا. على عكس حالة أفغانستان، يشكل البترول مسألة هامة فيما يتعلق بالعراق. فمن المرتقب نفاذ احتياطات الولايات المتحدة من البترول في أمد لا يتعدى 50 سنة. يمثل التحكم بمناطق البترول الأساسية بالعالم والتفوق العسكري الساحق العنصرين الحاسمين للسيطرة العالمية التي ترمي إليها الإمبريالية الأمريكية.

ويجب أن ُتأخذ أيضا بالحسبان الأهداف الإقليمية الأمريكية بالشرق الأوسط. فمن شأن احتلال وتثبيت العراق أن يغير بشكل كبير المنطقة. وستكون المملكة السعودية تحت ضغط مباشر أقوى من الولايات المتحدة. وستكون إيران في خط تسديدها، وسيكون الفلسطينيون في عزلة أشد. وستتعزز سلطة إسرائيل بشكل كبير، ويتغير التوازن السياسي بالمنطقة.

تمثل الحرب على الإرهاب استراتيجية طويلة الأمد لدى الإمبريالية الأمريكية بقدر ما تسعى إلى أقصى استعمال لتفوقها. تستعد الولايات المتحدة لفرض تراجع حركات التحرر بالعالم الثالث، وإخضاع الرأسمالية الأوربية لمصالحها، واعادة تحديد« عدالة شاملة »، واستعمال قوتها العسكرية لتأمين سيطرة الشركات الأمريكية متعددة الجنسية. ولن ُتعطى السيادة الوطنية حاليا سوى بموافقة الأمريكيين. وبات بوتين طليق الأيدي وشرسا اكثر فاكثر في الشيشان. وفي هذه الأثناء يظل أشخاص معتقلين أبديا من غير محاكمة بالولايات المتحدة الأمريكية، وكذا في « ديمقراطيات » أخرى، ويُسمح لوكالة الاستخبارات المركزية باقتراف اغتيالات سياسية كالتي يقوم بها شارون في فلسطين.

إن الضحايا على المدى القصير هم الفقراء والمضطهدون في البلدان التي غزتها الولايات المتحدة الأمريكية، او التي تستعد للتدخل بها. يشمل هذا كولومبيا والفليبين، حيث يتدخل الأمريكيون ضد منظمات حرب الغوار اليسارية. وحصلت حكومة شارون في فلسطين على إذن القيام بعمليات اقتحام مميتة ضد السكان الفلسطينيين.

لكن هذا ليس سوى غيض من فيض. إذ يجري إنشاء تركزات عسكرية استراتيجية في آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا. وقد أتاحت الحرب بأفغانستان للولايات المتحدة الأمريكية بناء قواعد عسكرية دائمة في بعض بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، الأمر الذي لا يُـتصور قبل 11 سبتمبر. لقد أقيمت قواعد في تدجيكستان وكيرغيزستان وحتى في جورجيا.

ويتعزز موقف الولايات المتحدة الأمريكية في كوريا الجنوبية ومضيق تايوان. ومستتبعات ذلك جلية. لقد بات بترول بحر قزوين تحت قبضة أمريكية أكثر فاكثر، والصين مطوقة عسكريا. ولا يعني هذا أن الصين في قائمة البلدان المعرضة للهجوم، لكنه يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تحكم جيو-سياسي بالمنطقة لامحةً أسواقها الواسعة.

إنها طبعا استراتيجية محفوفة بمخاطر كبيرة ومنطوية على أشراك عديدة. فبقدر شدة القمع وبقدر دوس العدالة، ستكون ردة اللهب قوية كما يعلم بوش وشركاؤه. لقد أدت الحرب ضد الإرهاب حتما إلى مزيد من الإرهاب، مع عدد متكاثر من الأشخاص المستعدين للموت بقصد الهجوم المضاد على طريقتهم. لا يعنى هذا تأييدا لأفعالهم بل فهما لاسبابها.

وفي ذات الوقت أدى تحضير غزو العراق، الذي سيجري حاليا تحت سلطة الأمم المتحدة، إلى حركة مناهضة للحرب لا مثيل لها قامت حتى قبل اندلاع الحرب.

شهدت بريطانيا مظاهرة شارك بها 000 400 شخص، وجمع المنتدى الاجتماعي الأوربي بفلورانسا زهاء مليون شخص. وتنمو الحركة المناهضة للحرب حتى بالولايات المتحدة الأمريكية. يجب ان تضاعف الأممية الرابعة الجهود من اجل بناء هذه الحركة المناهضة للحرب حتى حدها الأقصى، والعمل على نحو يجعل غزو العراق، إن تعذر وقفه، محارَباً بالعالم برمته بمظاهرات شوارع، ويفرض على المعتدين أكبر ثمن سياسي لافعالهم.

 

3. تناقضات داخلية جديدة للإمبريالية الأمريكية

(1) يتمثل وجه مستجد كليا في ضرب هذه الحرب للولايات المتحدة الأمريكية داخل ترابها ذاته، بينما تمكنت منذ قرون من خوض معارك في العالم برمته دون إصابة برد الفعل في عقر دارها. ويمثل هذا الحدث الخارق للعادة إهانة للقوة الأعظم في التاريخ التي لم يعد ترابها يشكل حرما. وسيطبع هذا وعيا حادا بانعدام الأمان وبالجروحية، وسيؤثر على المديين المتوسط والبعيد على مجمل العلاقات الاجتماعية في الداخل، لاسيما بين الطبقة السائدة والطبقات المستغلة والوعي الشوفيني-الإمبريالي الحاد (« أمريكا هي الأكبر في العالم ») داخل القطاعات الاكثروية من طبقة الأجراء .

وقد خلقت هذه الحرب آنيا الحلف المقدس حول الرئيس بوش. ونجح هذا الأخير، المنتخب بطريقة سيئة(في الداخل)، وفاقد الحظوة في البداية( في الخارج)، استدارة مثيرة، وخلق زعامة شديدة العزم، وشن هجوما مضادا قويا على الصعيد الداخلي والعالمي، مؤكدا تفوقا عسكريا لا نظير له، يشكل نمو الموازنة العسكرية رافعة ورمزا له.

(2) على أثر ذلك اضطرت الحركة الاجتماعية ضد العولمة (« الحركة من أجل عدالة شاملة ») بالولايات المتحدة الأمريكية إلى التراجع فورا، وأصابها ضعف بانسحاب الحركة النقابية(AFL-CIO) والتخلي عن مظاهرتها في واشنطن المقرر تنظيمها في نهاية سبتمبر 2001 بصفتها الأكبر والأشد هجوما منذ سياتل. لكن الحركة لم تتلاش. فقد نجحت، بفضل صلابة مناضليها، في استئناف التعبئة بسرعة وتشكيل حركة مناهضة للحرب ما زالت في وضع أقلية ضئيلة لكنها حاضرة في البلد برمته.

لكن أدى المناخ الشوفيني التالي لـلحادي عشر من سبتمبر إلى تحطم التحالف بين الحركة المناهضة للعولمة الرأسمالية والحركة النقابية التي ترجحت إلى اليسار بسبب « fast track » (حق الرئيس في حرية التفاوض حول عمليات اللبرلة المرتبطة بمنطقة التبادل الحر) والهجمات على القطاع العام. وسيكون استئناف ذلك التحالف حول محور يجمع هذه الرهانات الاجتماعية مع اعتبارات سياسية عامة (« فرص عمل مع العدالة ») وقفا على تراجع الشعور الوطني.

سيجتاز « الحلف المقدس » الامتحان من خلال السياسة الاقتصادية لحكومة بوش الموالية بشراسة لأرباب العمل ، والانكماش الاقتصادي، والتسريحات الواسعة المتواصلة، وكذا الإفلاس المذهل لعمالقة الاقتصاد وعواقبه الاجتماعية على فرص العمل والتقاعد/ صناديق المعاشات، واللصوصية المالية لأرباب العمل، وروابط الرشوة مع المؤسسة السياسية. انه « كل اقتصادي » بات ينشر الشك في الرأي العام حول قوة النظام والنزاهة الأخلاقية للطبقة السائدة.

 

4. عواقب الهجوم الأمريكي على الصعيد الدولي

برزت بسرعة عواقب هذه السياسة الجديدة معززة فورا كل الميول الرجعية الجارية.

(1) تعزز فجأة مناخ التبخرية وانعدام الأمان المعولم، وضخمه إعلام لجوج، مما ساعد على توطيد تدخل أجهزة القمع والإكراه الدولانية (الجيش، الشرطة، التشريع، المدرسة). وهذا ما يساعد بدوره على نمو تيارات شوفينية رجعية وكارهة للأجانب، مستهدفة بوجه خاص المهاجرين. ويطول هذا التطور الكوكب برمته. وجرى بوجه خاص إطلاق مشاريع لدى الطبقات السائدة ظلت محصورة وتم فرضها. (انظر التأطير العسكري الأمريكي لأمريكا اللاتينية، إعادة تحريك خطة كولومبيا، « اختراق » المعايير البوليسية والقانونية للاتحاد الأوربي).

(2) جرى ابتذال الحرب كوسيلة سياسية، وأصبحت مدمجة في استراتيجية الدول، وبات حق « التدخل الإنساني » في شؤون دول اخرى، الحكر على البلدان الإمبريالية، مقبولا كمفهوم « سياسة جديدة ». وامتد هذا الحق، بتقدير الإمبريالية(الأمريكية في المقام الأول) إلى دول أخرى باسم «  محاربة الإرهاب » (روسيا في القوقاز، إسرائيل في فلسطين، وفي أفريقيا جنوب الصحراء، أوغندا ورواندا وأنغولا في حروب الكونغو). ويترتب عن ذلك تكاثر بؤر التوتر والنزاعات وتنامي الفوضى والبؤس والهمجية.

(3) عادت النفقات العسكرية، بعد ثبات دام بضع سنوات على اثر نهاية الحرب الباردة، إلى إقلاعها منذ 1999. إن التسلح الكثيف للولايات المتحدة الأمريكية، الوارد في موازنة 2002، يعيد إطلاق تسلح يستحيل على أي بلد تقليده أو اقتفاءه.

ويختلف المنطق السياسي لهذا السباق الجديد نحو التسلح عن منطق نظيره خلال « الحرب الباردة »، إذ لم يعد المقصود الاستعداد لحرب نووية مع الاتحاد السوفيتي باسم« توازن الرعب »، بل شن حروب فعلية لفرض التفوق السياسي الذي لا منازع فيه(مع كل المزايا الاقتصادية والنقدية). تستدعي إعادة الصياغة الجارية لاستراتيجية سياسية عالمية تحديدا جديدا للأولويات العسكرية بمراعاة الإمكانات المالية المتوافرة: السيطرة على الفضاء التي تفيد أيضا في تأطير الكوكب عسكريا، وحماية « شاملة » للتراب الوطني، وقدرة خوض عدة حروب واسعة النطاق في نفس الآن(لاسيما بآسيا الشرقية)، وشن الحروب « اللامتساوقة » والتحكم بها(طراز أفغانستان)،والتدخلات العسكرية الدقيقة ( أمريكا اللاتينية والبلقان). ويمارس اندفاع العسكرة المشتد هذا ضغطا قويا على دول العالم، لاسيما داخل الحلف الأطلسي. ان هذه « الكينزية العسكرية » الامريكية، المرموقة بفعل حجم تدخل الدولة واندفاع الاستدانة العامة، تدعم الطلب الداخلي والقطاعات الاستراتيجية للاقتصاد الأمريكي العاملة أيضا بشكل واسع للتصدير.

(4) تهدد « محاربة الإرهاب » العالمية الحريات الديمقراطية ونشاط المنظمات الشعبية والمجتمع المدني بوجه عام. المقصود، حسب الوضع المحلي، قمع أو القضاء المادي على كل انشقاق أو معارضة، وتجريم الحركات الجماهيرية، والحد من تأثيرها السياسي. باتت الديمقراطية البرجوازية، بقدر وجودها وفي البلدان المعنية، تنطوي على إمكان الانتقال الى« حالة الاستثناء » حسب الظروف. والهدف الاستراتيجي جلي لأنه معلن قبل 11 سبتمبر: خنق الحركة الجماهيرية « المناهضة للعولمة » التي تنازع على نطاق جماهيري، وأول مرة منذ سنوات 1968، سيادة الرأسمالية والإمبريالية وتشير إلى انبعاث حركة للمستغلين والمضطهدين المنظمة على الصعيد العالمي.

(5) العواقب الخاصة على النساء في زمن الحرب. إلى جانب الحرب ضد الإرهاب كان أيضا، وما يزال، للعدد المتزايد من الحروب خلال العقود الثلاث الأخيرة في كل مكان من العالم، بقصد حماية مصالح الشركات متعددة الجنسية وتوسع العولمة الرأسمالية إلى كل قسم من العالم، عواقب عدوانية على النساء من كل الأعمار، لأن الاغتصاب ُيستعمل كآلية واعية للحرب وكعنصر من استراتيجية السيطرة على السكان. ستعاني النساء ضحايا هذا الاغتصاب مدى حياتهن من هذا الحدث الصادم وقد يلدن الأطفال الناتجين عنه، مما سيؤبد تلك الصدمة جيلا بعد جيل.

رغم ان الاغتصاب بات معترفا به رسميا أمام المحكمة الجنائية الدولية بما هو جريمة حرب، فان المغتصبين، الجنود، وبالتالي البلدان المسؤولة، لم يحاكموا أبدا على وجه التقريب.هذا علاوة على ان الحرب تجبر النساء على اللجوء إلى أي عمل، ومنه الدعارة في الغالب، لتأمين حياة الأسرة يعد وفاة الرجل او اختفائه.

 


ثالثا: العولمة مرحلة جديدة من الرأسمالية العالمية تحت سيطرة أمريكية

1- تحويل العالم إلى سلعة، لاسيما النساء والأطفال

تحدد العولمة الشكل الحالي للرأسمالية على نطاق الكوكب. وهي تتجلى في توسع جذري للسوق العالمية، وتداول حر من غير كابح للرساميل والسلع، وكذا سيرورة مذهلة من تركز رأس المال. وتميل إلى توحيد العالم في سوق هائلة بلا عوائق.

 

2- المنطق الرأسمالي وصراع الطبقات

إن هذه المرحلة الجديدة من تدويل الرأسمال، بما هي ميل ملازم للرأسمالية، وثيقة الارتباط بالظرف الاقتصادي والاجتماعي لسنوات70 و80. أدى ضعف النمو والانحسار إلى الرد الليبرالي المطبق منذ نهاية سنوات70 ، في ظل تاتشر وريغن، والممتد بسرعة إلى مجموع البلدان الصناعية. تمثل هذه السياسة النيوليبرالية هجوما واسع النطاق على الطبقة العاملة وعلى مكاسبها الاجتماعية المحققة في 50 او حتى 100 سنة الأخيرة، وتفضي إلى ارتفاع شديد لاستغلال الطبقات العاملة في الحواضر الإمبريالية، وارتفاع كتلة الربح ومعدله. وفي بلدان الأطراف ("الجنوب") يتمثل القانون الإمبريالي في إلغاء حق فرض أي واجب على حركات البضائع والرساميل. وجرى وضع بلدان الأطراف في تنافس بقصد جلب الرساميل بواسطة مستوى الأجور المنخفض وخفض شبه كلي للضريبة وللحماية الاجتماعية وللتشريع حول البيئة.

ليس طور العولمة الرأسمالية هذا نتاج حتمية اقتصادية وتكنولوجية صرف. انه نتيجة صراع طبقي حاد تخوضه الطبقات السائدة ودولها ضد البروليتاريا العالمية.

 

3- سيادة الشركات العابرة للأمم، النواة المركزية للإمبريالية

إنها تشن حربا معلنة ضد أدنى محاولة لمراقبة عملها. وتتيح لها هيكلة الاقتصاد العالمي الجديدة هذه جمع أرباح فائضة، وتأمين أسواق لمنتجاتها، والضغط على أسعار المواد الأولية، والحفاظ على احتكار التكنولوجيا. إنها نتيجة حركة تركز غير مسبوقة عبر الاندماج أو التملك، لم تستثن أي قطاع ولا أي منطقة بالعالم. إنها تنمي قوة المجموعات الكبرى بالشمال.

وتمنحها هذه المنزلة قوة اكبر إزاء الحكومات والدول حيث تمارس أنشطتها. قبلت هذه الأخيرة تخلي الدولة عن مراقبة العمليات المالية ومراقبة الصرف وحركات الرساميل. وفي الوقت ذاته تستند كبريات التروستات في العالم على قوة دولها لتغليب مصالحها في المفاوضات الدولية، مستعملة الديبلوماسية، وأحيانا الحضور العسكري. وتتمتع احتكارات الأقلية الصناعية أو المالية هذه بحرية في التحرك والقرار غير مسبوقة، ومسرحها السوق العالمية.

 

4 - سند المؤسسات الدولية المشتركة بين الدول

إن للعولمة بعد تجاري أيضا. تحول الغاتGATT، الذي كان منتدى لاشكليا لأجل إلغاء تدريجي للحواجز بوجه التبادل الحر، إلى المنظمة العالمية للتجارة في فاتح يناير 1995. وفي سياق نمو قوي للمبادلات الدولية أصبحت هذه المؤسسة، غير المنتخبة ولا الخاضعة لأي رقابة، حكما في التجارة الدولية بواسطة معايير ليبرالية صرف، حيث ُتعامل الدول الغنية والدول الفقيرة دون مراعاة الفروق. ليس فشل مؤتمر المنظمة العالمية للتجارة في سياتل في نوفمبر 1999 إلا فشلا مؤقتا. وقد باتت دورة أخرى منطلقة بقصد دفع قطاعات كالصحة والتعليم إلى مجال المنافسة، وإضفاء الليبرالية الشاملة على الاستثمار الخاص. إنها قطاعات مستبعدة مؤقتا لكن لن يتأخر استهدافها بهجوم جديد. ورغم الخطاب حول حرية التجارة، تواجه منتجات بلدان العالم الثالث حواجز في أسواق البلدان الأغنى، بينما تقوم هذه الأخيرة بإزاحة كل الحواجز بوجه اجتياح منتجاتها الصناعية والزراعية، مستعملة ضغط الديون وصندوق النقد الدولي، والنتيجة إزاحة صغار منتجي البلدان النامية المعرضة لمنافسة الصناعة الغذائية بالشمال، وتدمير قدرتها على الاستكفاء الغذائي.

 

5- ثـقل مولنة [9] الرأسمالية

إن الوزن الراهن للأسواق المالية ناتج عن إجراءات التفكيك العام المتخذة خلال سنوات 80 بارتباط مع مستوى أسعار الفائدة بالغ الارتفاع آنذاك. وتكاثرت المؤسسات المالية وتنوعت إلى جانب البنوك التقليدية، مثل صناديق المعاشات الانجلوساكسونية ذات القوة المالية الهائلة والتي كانت إحدى محركات سياسة الاستثمار. وتتيح قوة الضرب المتراكمة على هذا النحو التأثير على قرارات الشركات او على السياسات الاقتصادية العامة بقدر ما أن كلا من الدول، فيما يخص الدين العام، والمنشآت تقترضان من السوق المالية. زادت إذن هذه الهيكلة استقلال الدائرة المالية النسبي، لكنها تظل مع ذلك مرتبطة بالقطاع المنتج. أولا بفعل كونها لا تقوم بغير إعادة تدوير قسم من فائض القيمة المستخلصة في دائرة الإنتاج، وهو قسم متنام جدا بفعل استفحال التوزيع المتفاوت للمداخيل بين الطبقات، وثانيا لأن حرية المناورة لديها ناتجة عن إرادة سياسية وخيار مقصود.

 

6- منظومة فائقة التراتب

تؤدي العولمة إلى تقدم جذري في تدويل الإنتاج تحت قيادة كبريات الشركات متعددة الجنسية. وهذا ما يؤدي إلى تخصص وتراتب متنام، ويعزز استحواذ المركز على موارد الأطراف. كما تقوم إعادة الهيكلة هذه في المركز، لا سيما بالولايات المتحدة الأمريكية، بدور ُمخمِد لدورات الانحسار وكعامل تمديد لأطوار الازدهار. إنها تسهل على نحو استراتيجي إعادة إنتاج الرأسمال عالميا.

يمثل تمييز مجموع بلدان المركز الإمبريالي عن الأطراف الخاضعة للسيطرة والمتخلفة نقطة الانطلاق لتحديد اندماج كل منطقة وبلد في السوق العالمية، مع اعتبار تباين الأوضاع في الأطراف. تقع القارة الأمريكية اللاتينية في مستوى فوق أفريقيا التي باتت موطنا للنهب، لكنها اقل من شرق آسيا. وعلى صعيد كل قارة ُيستعاد تراتب مماثلة من بلد إلى بلد (مثلا عمليات التصنيع الجزئي). ويوجد هذا التراتب أيضا داخل كل بلد وكل طبقة عاملة، لأن لمختلف فئات هذه الطبقة مستويات متباينة من استقرار العمل والخدمات العامة كالصحة والتعليم، مما يفضي إلى تراتب بين النساء والرجال والأطفال والشيوخ والمهاجرين والعمال المحليين. وتؤثر هذه التحولات بعمق في بنى المجتمعات، لاسيما في الروابط بين الطبقات السائدة والإمبريالية ومن ثمة في شكل الصراع الطبقي.

يتجلى الاضطهاد المنهجي للنساء في الحياة اليومية لمجتمع يغذي بخس مكانة النساء وأعمال العنف ضدهن، مع الحفاظ في الوقت عينه على أدوار صارمة على أساس النوع. ينتج عن ذلك بخس اجتماعي للنساء، وتهميش اقتصادي، ومتاجرة بأجسامهن. وتظل الأسرة البطريركية الوحدة الاقتصادية المركزية المنزلية في المجتمع الراهن. وتقوم، مدعومة من مؤسسات بطريركية أخرى مثل التراتبات الدينية وبيروقراطيات الدولة، بتعزيز سلطة الرجال على النساء إيديولوجيا وعمليا. إن الإيديولوجية البطريركية، بما هي جملة أفكار تحدد الأدوار الأنثوية بصفتها مختلفة وأدني من ادوارالرجال، تخترق مجموع المؤسسات وتؤدي إلى مقاومات من جانب حركات النساء في العالم برمته.

 

7- وجه النيوليبرالية العنيف

نشهد، كنتيجة للهجوم النيوليبرالي، تنامي مختلف أشكال العنف بوجه عام، وضد النساء بوجه خاص. وتكون العلاقات العاطفية الحميمة مصدر اكبر الأخطار المحدقة بنساء كثيرات، فعدد متنام من النساء يموت مغتالا من طرف الزوج أو الزوج السابق بنسبة تفوق أيا آخر من أسباب الوفاة. ويمثل حراس الليل « الليل، الشارع، بلا خوف » والمظاهرات تحركات سنوية تكشف بشكل مأساوي وضع العنف الممارس ضد النساء. وبلغ اللجوء إلى أشكال العنف المنزلي، من جرائم شرف واغتصاب المحارم وقتل البنات الصغيرات واغتصاب الأزواج والضرب، مستويات غير مسبوقة. وتشكل النساء هدف أنصار الحفاظ على الوضع القائم وكذا السلفيين الذين يتخيلون عالما افضل مؤسسا على فرض أدوار جنسية صارمة. ترمي هذه القوى، ردا على توترات العالم النيوليبرالي، إلى السيطرة على النساء بفرض سياسات دولانية، لا سيما فيما يخص المسائل المرتبطة بالإنجاب.

وكقاعدة عامة أصبحت المجتمعات بكل مكان بالعالم اكثر عنفا لأن النيوليبرالية تفاقم الاستغلال بواسطة رفع الوتيرة وتمديد يوم العمل ،الخ. وأعيد النظر حتى في سياسات شغل سبق وضعها بقصد تأمين ليونة اكثر للمجتمعات ( تشغيل عمال وعاملات دواما جزئيا وحقوق اقل للعمال المسرحين)، وتكتسي المنافسة الداخلية بين العمال شكل عنف مادي ونفسي متزايد في أماكن العمل. ليس ثمة اعتراض على سلطة رب العمل دون تضامن عمالي. وتمثل sweatshops (مشاغل البؤس) والعمل بالمنزل نماذج استعباد اليد العاملة، ذات الأكثرية النسائية، بأجور منخفضة وظروف عمل مهينة وعنيفة وظالمة، بما فيها التحرش الجنسي والعقاب الجسدي. إن خطاب« حرية التجارة » يخفي الآليات العنيفة للنظام الرأسمالي.

 

8- الهيمنة الأمريكية: الدولار والحرب

احتاج إرساء « النظام العالمي الجديد » الإمبريالي، لاسيما تراتبه الشامل والصارم، حربين (العراق والبلقان) وتدخلين عسكريين ( باناما وهايتي). وتعود المبادرة في ذلك إلى الإمبريالية الأمريكية التي لم تستثمر قوتها الاقتصادية وحسب، بل أيضا تفوقها العسكري. نجحت الولايات المتحدة الأمريكية، بما هي الصانع الرئيس لانتصار« الحرب الباردة »، في شن الحرب على العراق. فبعد استبعاد المعارضة الصريحة او الخفية للاتحاد السوفيتي وحلفائه التقليديين وبلدان الاتحاد الأوربي(باستثناء بريطانيا) والسواد الأعظم من بلدان العالم الثالث، وبقدر ذلك برزت كأوحد قوة عظمى عسكرية وسياسية في الكوكب. اضطر الاتحاد الأوربي، العاجز عن احتواء التناقضات التي باتت تفجرية في البلقان، إلى دعوة الولايات المتحدة الأمريكية. واستعملت هذه الأخيرة تلك السانحة لتبرهن على تفوقها في التكنولوجيا العسكرية، وأكدت كونها قوة أوربية ذات أهداف في روسيا. كانت العوامل العسكرية والثقافية (وسائل الإعلام ،الموسيقى، الاتصالات)، مع قوة «  اقتصادها الجديد » والدولار، هي التي فرضت الولايات المتحدة الأمريكية مفتاحا لعقد الرأسمالية المعولمة.

 

9- تصنيع تجارة الجنس والتحويل إلى سلعة

تمثل العولمة الرأسمالية أصل تطور صناعة التجارة الجنسية على نطاق الكوكب. إن قطاع الاقتصاد العالمي هذا،الذي يشهد توسعا كاملا ويؤدي إلى تنقلات سكان كبيرة جدا(مع تزايد الطابع النسائي لتدفقات الهجرة)، والذي يدر أرباحا ومداخيل مدهشة( في المرتبة الثالثة بعد أرباح تجارة السلاح والمخدرات)، يشكل تركيزا للخصائص الأساسية وغير المسبوقة لهذا الطور الجديد من الاقتصاد الرأسمالي.

وقد بلغت الدينامية والضغط مستوى جعل المنظمات الدولية تتبنى منذ 1995 مواقف، هي بعد تحليل ورغم خطاب مندد بأسوأ عواقب عولمة أسواق الجنس، تجنح إلى لبرلة الدعارة وأسواق الجنس(1).

خلق هذا التصنيع، الشرعي وغير الشرعي معا، والمدر لعشرات ملايير الدولار، سوق مبادلات جنسية أصبح فيها ملايين البشر، لاسيما النساء والأطفال، سلعا ذات طابع جنسي. وقد نتجت هذه السوق عن انتشار الدعارة الواسع، والتطور الصناعة السياحية غير المسبوق غير المسبوق، وعن إزهار تطبيع صناعة الخلاعية وتدويل الزيجات المدبرة، وعن حاجات تراكم الرأسمال.

تستند الدعارة والصناعات الجنسية الملحقة بها(حانات،أندية، مواخير، صالونات تدليك، دور إنتاج الخلاعية،الخ) على اقتصاد باطني واسع يتحكم به القوادون المرتبطون بالجريمة المنظمة. وتستفيد صناعة السياحة بشكل واسع من تجارة الجنس بنفس قدر استفادة الحكومات(60% من موازنة حكومة تايلاند عام 1995).

أصبحت الدعارة استراتيجية تنمية لدى بعض الدول. فبوجه لزوم سداد الديون قامت المؤسسات الدولية، كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، بتشجيع بلدان عديدة بآسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا على تطوير صناعات السياحة والتسلية، مما يؤدي إلى إقلاع تجارة الجنس.

 

رابعا: سقوط البيروقراطية الستالينية وإعادة الرأسمالية ودمج في الاقتصاد العالمي

1. الأزمة وإعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية

تمثل نهاية سنوات 1980 انعطافا تاريخيا نحو عودة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية، انعطافا ناتجا عن أسباب داخلية وعن عوامل دولية مطبوعة بالهجوم النيوليبرالي والإمبريالي لسنوات 1980.

(1) نتج ذلك الانعطاف في ذات الوقت عن:

- مآزق مختلف محاولات الإصلاح اللاحقة للستالينية التي مددت خلال بضع عقود حكم الحزب الوحيد وعلاقات الإنتاج غير الرأسمالية، دون نجاح في الانتقال إلى نمط نمو تكثيفي. تنامت التناقضات بين قيم العمال وتطلعاتهم المرتبطة بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج من جهة، وتسييرها على ظهرهم من طرف البيروقراطية من جهة ثانية. وأفرغ افتقاد الديمقراطية العمالية على نطاق المجتمع من كل مضمون وتماسك حقوق التسيير الذاتي الممنوحة لمتحدات المنشأة من طرف حزب /دولة يسعى إلى الحفاظ على امتيازاته في السلطة.

- استفحال هذه التناقضات في السياق الرأسمالي العالمي لسنوات 1970-1989، بضغط من الديون الخارجية بالعملة الصعبة في بلدان عديدة بأوربا الشرقية والسباق نحو التسلح.

- إعادة النظر الشعبية في الأنظمة الديكتاتورية البيروقراطية التي يرمز إليها سقوط جدار برلين ونهاية حكم الحزب الوحيد، لكن دون تمكن المقاومة والتطلعات الاجتماعية من بلوغ بديل اشتراكي متماسك.

- انتقال قطاعات هامة من البيروقراطية إلى الرأسمالية في سنوات 1980 لأجل تحطيم المقاومة العمالية، مع السعي إلى توطيد امتيازاتها في السلطة ومنها امتيازات الملكية.

- تعميم علاقات السوق والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وعودة ظهور البطالة على نطاق جماهيري، والتخلي عن الإيديولوجية السائدة القديمة التي كانت تضفي شرعية على التطلعات الاشتراكية وذلك لصالح خطاب نيوليبرالي، وإعادة النظر في المكاسب الاجتماعية، وكلها تمثل هزيمة نكراء لعمال تلك البلدان والعالم برمته، وتتيح توسع وتكتيف الهجوم الإمبريالي المنطلق في نهاية سنوات 1970.

وفي الوقت عينه، أدت عشر سنوات من إعادة الرأسمالية إلى تبدد عميق للأوهام إزاء وعود الفعالية التي رافقت الوصفات النيوليبرالية، لكن تضافر تدهور اجتماعي كبير مع انتزاع الحريات النقابية والسياسية وسع انفصال الأجيال وبلبلة الوعي. وتدهورت أشكال التضامن التي أمكن ربطها بأزمة نمط السيطرة الستالينية لصالح إعادة نشر إيديولوجيات رجعية وحتى نيوستالينية. وتشق إعادة تشكل حركة نقابية وسياسية معادية للرأسمالية وديمقراطية طريقها بمشقة في سياق أصعب من أوربا الغربية، وسيكون مرهونا بعمق ببروز بديل ذي مصداقية في الاتحاد الأوربي وتطور نزعة أممية جديدة للمقاومات بوجه العولمة الرأسمالية.

(2) أيا كانت تنويعات الإصلاحات المطبقة في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية منذ سنوات 1950 حتى سقوط جدار برلين، فقد حافظت كلها على ديكتاتورية حزب وحيد وعلى علاقات إنتاج بيروقراطية محمية إجمالا من منطق ربح رأسمالي وانضباط سوق.

بعد سنوات عديدة من اقتراب مستوى المعيشة من البلدان الرأسمالية المتقدمة بفضل نمو انتشاري قوي، بدأت الفروق تتسع انطلاقا من سنوات 1970. وتدهورت المكاسب الاجتماعية التي كانت ترافق التبذير والقمع البيروقراطيين، وذلك بتزامن مع تدهور تطلعات وحاجات الأجيال الجديدة، كما انحصرت أشكال الارتقاء الاجتماعي العمودي بفعل النزعة المحافظة البيروقراطية.

أ- لكن الهجوم الإمبريالي لسنوات 1980 سرع مأزق الديكتاتورية البيروقراطية، ووسع فروق النمو بين أوربا الشرقية والغربية التي عمقتها الثورة التكنولوجية:

وقد أناخت ضغوط الطور الأقصى من الحرب الباردة، والسباق نحو التسلح في بداية عهد ريغن، بثقلهما على الاتحاد السوفيتي لا سيما أن نموه كان راكدا: تحققت أولوية صناعات التسلح على حساب الاستثمارات الصناعية وتحديث التجهيزات والاستهلاك.

أدى وقوع بلدان عديدة بأوربا الشرقية في استدانة بالعملة الصعبة خلال عقد 1970 إلى وضعها تحت رحمة سياسات التكييف الهيكلي لصندوق النقد الدولي، مؤدية إلى ردود فعل متمايزة من الأنظمة القائمة، منها التقشف الجذري والتفجري المفروض من الديكتاتور الروماني تشاوسيسكو وصعود النزاعات القومية والاجتماعية في فيدرالية يوغوسلافيا المشلولة، مرورا بخيار القادة الشيوعيين الهنغاريين بيع أفضل منشآتهم للرأسمال الأجنبي. أدى وصول قوى اليمين إلى السلطة في إطار أول انتخابات تعددية إلى مفاقمة جذرية لقبول الأفرقة الحاكمة برامج الخصخصة التي يدعو إليها صندوق النقد الدولي، ورافق إلغاء جزء من ديون بولونيا والوسائل المستعملة لإفساد الناطقين باسم نقابة تضامن العلاج بالصدمة المفروض في بولونيا.

وقام بناء أوربا ماسترخت مقام معايير صندوق النقد الدولي بما هو مسرع لإعادة الرأسمالية بأوربا الشرقية.

ب- إذا كانت إعادة الرأسمالية قد استندت على مؤسسات عالمية قوية، وعلى ضغوط السوق العالمية، فلم يكن بوسعها التقدم دون سند داخلي في سياق تشوش كبير للوعي وضعف تنظيم العمال الذاتي. سمح تحول القسم الأعظم من بيروقراطية الأحزاب الشيوعية خلال سنوات 1980 إلى مشروع لإعادة الرأسمالية بعد قمع منهجي للقوى الاشتراكية الديمقراطية خلال العقود السابقة، بأن يعطي انفجار الحزب الوحيد السلطة لقوى مناصرة لعودة الرأسمالية مهما كانت يافطتها.

ج- تتحقق إعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفيتي سابقا، وفي أوربا الشرقية، وهي بلدان مصنعة على نطاق واسع، في سياق لا سابق له تاريخيا مطبوع في البداية بغياب كل الخصائص الضرورية لاشتغال سوق رأسمالية وغياب قاعدة « عضوية »، ولو ان القسم الأكبر من بيروقراطيي النظام القديم يطمح إلى التحول إلى بورجوازيين أو جعل نفسه في خدمة الرأسمال الأجنبي.

(1) مر خضوع السلطات الجديدة للبرامج المفروضة من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي عبر تفكيك كل شكل من التسيير الذاتي والسوفييتيات، وتحويل وسائل الإنتاج إلى بضاعة، مع توسيع وظائف النقد وتعميم برامج الخصخصة بما هي « حجة » على القطع مع الماضي، ومعايير فعالية كونية مفترضة.

(2) لكن عمليات الخصخصة اصطدمت في هذه البلدان، التي شهدت عقودا طويلة من التصنيع دون سيطرة علاقات نقدية وبأشكال ملكية هجينة « بيد الشعب كله »، بسؤال: من يستطيع (قانونيا وعمليا) شراء المنشآت ؟ ويقع في قلب مصاعب إعادة الرأسمالية خصخصة المنشآت الكبرى، المهيكلة أحيانا لمناطق بكاملها، والمؤمنة في النظام القديم توزيعا عينيا لخدمات اجتماعية وسكنية. وتضاف إلى مخاطر انفجار اجتماعي كلفة كبيرة لإعادة الهيكلة بوجه افتقاد الرأسمال والبرجوازية الوطنية القادرة على شراء هذه المنشآت وفرض تسييرها الرأسمالي على العمال.

(3) اختار قادة هنغاريا بوجه هذه الصعوبة العامة بيع افضل منشآتهم مباشرة للرأسمال الأجنبي. لكن ما خلا هذه الحالة، أبدعت أغلب الأنظمة الجديدة في الاتحاد السوفيتي سابقا وفي أوربا الشرقية، في بداية سنوات 1990، أشكالا مختلفة من الخصخصة القانونية دون إسهام بالرأسمال، وذلك في الغالب لصالح الدول الجديدة التي أصبحت مالكة أسهم. وقد أتاح توزيع « قسيمات » تمنح حق شراء أسهم أو حصول العمال مجانا على قسم مهم من اسهم منشأتهم تسريع « عمليات الخصخصة » بنظر الدائنين والمؤسسات الغربية، مع إيقاع العمال في شرك « الأسهم الشعبية ». أيا كانت تنويعات الأشكال الجديدة للملكية، جرى إبطاء إعادة هيكلة المنشآت الكبرى أو « تفاديها » متخذة في الغالب شكل اختناق بفعل نقص التمويل وعدم أداء الأجور بدل مواجهة طبقية عبر التسريحات. وزاد ذلك بشكل كبير صعوبات مقاومة العمال الجماعية، مما حدا بهم إلى السعي إلي حلول بقاء فردية (زراعة قطعة ارض، مهن صغيرة).

ان التركز التدريجي للأسهم، ولسلطات تسيير فعلية، بين أيدي سلطات دولة بورجوازية مستجدة والبنوك والاوليغارشية، بأشكال شديدة الغموض، قد حد في البداية من البيع للرأسمال الأجنبي.

(4) كانت علاقات المقايضة، التي انتشرت في الاتحاد السوفيتي خلال عقد 1990 في ذات الوقت مع الخصخصة و« نزع التضخم » المفروض من صندوق النقد الدولي، شكلا للحماية الهشة ضد اكراهات السوق الجديدة المصحوبة بالتوسع الفعلي للعلاقات النقدية وتركيبات مالية مافياوية وإخضاع نظام إلتسين لوصايا صندوق النقد الدولي والاوليغارشية. وترافق غياب إعادة هيكلة وتمويل المنشآت بهروب واسع النطاق للرأسمال نحو الخارج ومضاربة حادة، مارستها البنوك الخاصة الجديدة على سندات الدولة مؤدية إلى أزمة صيف 1998.

(5) واشتدت في جميع البلدان المرشحة لعضوية الاتحاد الأوربي الضغوط لفتح الاقتصاد، لاسيما البنوك، بوجه الرأسمال الأجنبي خلال النصف الثاني من عقد 1990: أصبح اكثر من 70% من البنوك خاضعا لسيطرة أجنبية في بلدان عديدة بأوربا الوسطى، ومنها بولونيا حيث يتجاوز معدل البطالة 17%.

وأدى سباق الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، الذي ظل عذرا للسياسات اللاشعبية المفروضة من حكام أوربا الوسطى، إلى تسريع انفصال أغنى المناطق متخلصة من « العبء على الموازنة » الذي يشكله الآخرون بقصد محاولة الاندماج بأسرع ما يمكن في الاتحاد الأوربي.

ووجه المرشحون للضم تجارتهم بشكل جذري نحو الاتحاد الأوربي، وباتوا معرضين لتقلبات نموه، ومسجلين عجزا تجاريا منهجيا. إن المعايير التي ُيلزم بها الاتحاد الأوربي البلدان المرشحة تعمق الفقر والبطالة، لترفع بذلك كلفة الانضمام، بينما تظل الموازنة الأوربية محدودة بشكل ضيق. سيكون المقصود بلا شك خفض الموارد الممنوحة لبلدان الجنوب وعدم شمل فلاحي الشرق بإعانات السياسة الزراعية الموحدة.

وساعد إخفاق الاتحاد الأوربي المتكرر إزاء أزمة يوغوسلافيا سابقا وحروبها على إعادة تحديد الحلف الأطلسي وتوسيعه نحو الشرق، ومكن هذا الولايات المتحدة من الضغط على الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوربي ودول أطرافه، لا سيما بالبلقان، مقدمةً لهؤلاء عوضا عن الانضمام إلى الاتحاد الأوربي.

(6) واستقر التناوب بلا بديل خلف التعددية السياسية. وكان ثمة ارتفاع الاستنكاف عن التصويت، وصعوبة بلورة أغلبيات حكومية، وشمول الفضائح المالية كافة الأحزاب الحاكمة أيا كانت يافطتها. وعبرت العودة السريعة والعامة للشيوعيين سابقا، عبر صناديق الاقتراع، عن فقد الأوهام العميق لدى السكان إزاء الوصفات الليبرالية، وعن أملهم في سياسات اجتماعية اكثر. لكن سرعان ما خيب التحول الاشتراكي-الليبرالي لتلك الأحزاب رجاءهم.

(7) فتح وصول بوتين إلى السلطة، في سياق أزمة صيف 1998 المالية، طورا جديدا مطبوعا بإرساء سلطة « وطنية » ودولة قوية على أصعدة عدة: إعادة إرساء القوة الروسية (لاسيما في الشيشان)، ونظام أخلاقي واقتصادي معين، وإخضاع وسائل الإعلام والسلطات الإقليمية ... ويوضح مشروع قانون العمل الجديد وأقرب مستشاري بوتين الأهداف الاقتصادية-الاجتماعية البرجوازية لهذا النظام. وأتاح خفض قيمة الروبل، بعد أزمة صيف 1998، انتعاشا هشا للإنتاج الوطني وتراجعا للمقايضة، لكن حاجات تمويل الصناعة ظلت تحت ضغط إمبريالي.

تسعى السلطة الروسية إلى استعادة سمات قوة عظمى في تفاوض مع الحلف الأطلسي الذي كان توسيعه إلى الشرق مصدر توترات. وراودها أمل في تعزيز مقاومة منها لجبروت الولايات المتحدة الأمريكية بالاستناد إلى الاتحاد الأوربي. لكن الإطار الأطلسي والنيوليبرالي لبناء هذا الأخير حد من تلك الرغبة.

أطلق دمج روسيا في التحالف« المضاد للإرهاب »، خلف الولايات المتحدة الأمريكية، يديها لتخوض حربها القذرة في الشيشان. لكن التوترات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، كالتي ظهرت حول مسألة العراق، ستتيح لروسيا من جديد محاولة لعب التوازن بين القوى العظمى.

 

2. الدينامية الصينية: انفتاح متنام على الرأسمالية خلف الحفاظ على الحزب/الدولة

من وجهة نظر القوى العظمى، لا تكف الصين عن البروز كعامل شك على الصعيدين الجيو-سياسي (مسائل تايوان والتيبت وآسيا الوسطى،الخ) والاجتماعي-الاقتصادي على السواء. وتعي المجموعات الحاكمة بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالاتحاد الأوربي (وبالأحرى باليابان)، أن الصين ستسعى في العقود المقبلة، في جميع الأحوال، إلى القيام بدور قوة عظمى واستثمار هيمنتها بآسيا. وقد استخلصت، من جهة أخرى، دروس حرب كوسوفو بمواصلة تحديث قوتها العسكرية.

وقياسا على تدني الإنتاج الذي مس روسيا وكل بلدان أوربا الشرقية في بداية سنوات 1990، مع مستوى نتاج داخلي إجمالي لم يلحق بنظيره لما قبل 20 عاما سوى في خمس من بلدان أوربا الوسطى، شهدت الصين منذ 20 سنة معدل نمو يناهز 10% سنويا، متجاوزا 8% من النمو حتى خلال سنوات الأزمة الأسيوية. إن أرقام الصين حول تراجع العدد المطلق للفقراء خلال العقدين الأخيرين هي التي أتاحت للاحصاآت ادعاء انخفاض التفاوت العالمي، بينما هو ارتفع، باستثناء احصاآت الصين، منذ 20 سنة.

وفي ذات الآن، تعمقت فوارق الدخل بالصين بموازاة التراجع عن المكاسب الاجتماعية في الصحة والتعليم وأشكال الحماية في العمل: منطق الخصخصة الرأسمالية جار مع تنامي طابعه القانوني. ومن ثمة تنامي الانفجارات الاجتماعية المحتجة ضد التفاوت، مستعملة بوجه خاص الفروق بين الخطابات« الاشتراكية » والواقع الرأسمالي النامي.

من المفارقة، بالنسبة للخطاب النيوليبرالي،أن الحفاظ على سلطة حزب/دولة قوية، قمعية وداعمة للنمو معا، اكثر جذبا للرأسمال الأجنبي. فقد كان رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر، في منعطف الألفية، زهاء 300 مليار دولار في الصين مقابل 12 في روسيا.

لكن الانفتاح الصيني كان حتى آنذاك متحكما به و« صينيا » بشكل واسع، حيث لم يكن تمويل الاستثمار خاضعا بشكل رئيسي للخارج. وهذا ما أتاح للصين، مع فوائضها التجارية، قدرة على مقاومة الأوامر النيوليبرالية. وبالقياس إلى عدد السكان تزداد دلالة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فقد بلغت عام 2000 في الصين 160 دولار للفرد، مقابل85 دولار في روسيا، لكنها بلغت 571 دولار في كازاخستان، وزهاء 1000 دولار في بولونيا، و2000 دولار في هنغاريا، أو الجمهورية التشيكية. في الجوهر ُيعزى النمو الصيني إلى ميركانتيلية جديدة مبنية على نزعة تدخل وحمايات دولانية تستوحي نموذج كوريا واليابان في سنوات نموهما القوي أكثر من التوصيات النيوليبرالية.

جرى انفتاح الصين على المبادلات الدولية، حنى نهاية عقد1990، على أسس محمية جدا (لاسيما عدم قابلية عملتها للتحويل، والحدود الضيقة المفروضة على التمويلات لغير المقيمين) كما يدل على ذلك كونها بقيت في منأى عن الأزمة الآسيوية لعامي 1997-1998.

ترافق الانضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة مع تجذر الإصلاحات بهدف تحويل المنشآت بشكل متزايد إلى شركات أسهم، وفتح النظام المالي بوجه الرأسمال الأجنبي، مع انفتاح الحزب الشيوعي الصيني على رجال الأعمال. وبموازاة ذلك تواصل تفكيك الحمايات الاجتماعية القديمة.

تصطدم السيرورة الجارية بالمقاومات الاجتماعية المتنامية بوجه تعمق أشكال التفاوت وتنامي الهشاشة. ان هكذا مقاومات، التي يعود أصلها إلى حركة تيان آن مين، من شأنها أن تهز الواجهة الموحدة للنظام، وتفضي إلى قطيعة بالاطارالمؤسسي للدولة-الحزب. طبعا يجب منازعة الخطابة الاشتراكية بوجه إجراءات توسيع علاقات الإنتاج الرأسمالية، وبوجه كل جناح« معتدل » او محافظ لا يضع في صلب المقاومة المعادية للرأسمالية الضرورية إدخال حقوق التنظيم الذاتي وحقوق تسيير العمال للملكية الجماعية.

 


خامسا. التناقضات المزعزعة للنظام الإمبريالي الجديد

1. صعود التناقضات بين القوى الإمبريالية

(1) تحمل البنية الجديدة للرأسمالية المعولمة بذور اشتداد تنافس إمبريالي بين الكتل الاقتصادية الإقليمية الثلاث، كل حول إحدى القوى الاقتصادية الكبرى الثلاث. فالولايات المتحدة الأمريكية، القوة الشاملة الوحيدة، تؤمن استقرار ودوام نظام الاستغلال مع غلو في استعمال موقع القوة هذا لفرض شريعتها على منافسيها. وقد ُتغير النتيجة السياسية للحرب الجديدة جوهريا موازين القوى السياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والبلدان الإمبريالية( اليابان،الاتحاد الأوربي) من جهة أخرى والقوى العظمى(روسيا، الصين) السائرة إلى الاندماج في السوق العالمية. وسيؤججها الانحسار.

(2) أصيبت اليابان منذ عشر سنوات بركود اقتصادي مرتبط بالعجز عن تجاوز آثار فقاعة مضاربية وأزمة بنكية ضخمة. لكن هذه الظرفية تخفي حاليا القوة الصناعية والمالية لليابان مركز إحدى المناطق (شرق آسيا) الأكثر دينامية في الاقتصاد العالمي. تعني « العولمة » انفتاح البلد عبر جملة عمليات من نزع الضبط القانونية-المؤسسية والخصخصة. إن معركة المجموعات الكبرى للانغراس في اليابان جارية، وتدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسقاط البنى الحمائية. وتنيخ هذه الأخيرة بكامل قواها في المنطقة بحضورها العسكري المبرر باحتواء صعود الصين (اقتصاديا وعسكريا) بوجه تايوان. وهي تستعد في منظور متوسط المدى لمواجهة تشكل قوة سياسية واقتصادية جديدة من الصين وهونغ كونغ وتايوان مما قد يقلب جذريا التوازنات في آسيا والمحيط الهادئ.

(3) حققت البرجوازيات الأوربية نجاحا أكيدا باعتماد العملة الموحدة. ويعمل الاتحاد الأوربي في المرحلة الراهنة من أجل استغلال افضل للفضاء الاقتصادي المشترك، وانماء تنافسيته في السوق العالمية. وقد تعاقبت عمليات الانصهار وتركز المجموعات الصناعية والتجارية والمالية والمصرفية القوية. وتتقدم السوق الموحدة بوجه خاص في مجال إضفاء التناسق على الأسواق المالية. وحدد الاتحاد الأوربي منذ حرب كوسوفو هدفا له تشكيل قوة عسكرية مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا مرتبط مباشرة بالتوسع شرقا المصطدم بعقبات عديدة في البلدان المرشحة المجبرة على تطبيق نزع ضبط وخصخصات وتغييرات بنيوية..يسعى الاتحاد الأوربي، بتحوله إلى قلعة(اتفاق شينغن)،إلى استبعاد حركات السكان القادمة من جنوب البحر المتوسط وأفريقيا السوداء وأوربا الشرقية وقسم من آسيا.

يستلزم عزم الطبقات المسيطرة التقدم نحو « أوربا-قوة » إصلاحا للمؤسسات، الهجينة جدا حاليا،مفضيا إلى قيادة سياسية فوق وطنية حقيقية. تمكن الاتحاد الأوربي من التزود بجنين جهاز دولة فوق وطني محاط بجملة تنسيقات بين الدول متماسكة باطراد. لكن بناء الاتحاد ما يزال في طور انتقالي وهش، ومخترق بتناقضات قوية بين الدول الأعضاء (الكبرى)، وناكص عن الديمقراطية البرلمانية. وتظل مشروعيته محدودة جدا بين السكان بسبب سياسته الفتاكة بتطلعات المجتمع. وفي الوقت ذاته تتواصل الدينامية مدفوعة بالعولمة الرأسمالية العامة، وبحاجات الرأسمال الأوربي الكبير. وهي مجبرة على التصدي للعراقيل والتقدم لأن التراجع سيفضي إلى أزمة خطيرة تهدد المكاسب (لاسيما الوحدة النقدية).

يمثل التنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية حافزا هاما لتشييد دولة أوربية. تمتلك الرأسمالية الأمريكية جهاز دولة قوي وكلي الحضور في كافة القارات. انه يمثل الدعامة التي لا غنى لمجموع البرجوازيات الإمبريالية عنها. لكنها تستعمله في الوقت ذاته لتفضيل منشآتها متعددة الجنسية الخاصة في الصراع الشرس على صعيد التنافس الاقتصادي ودوائر النفوذ السياسي. لا يمكن للرأسمال الأوربي الكبير أن يتراجع في محاولة إنشاء دولة أوربية إمبريالية. ويفضي هذا حتما إلى محاولة معادلة التفوق الأمريكي الراهن. وهو ما لن يتم من غير خلافات وصراعات.

 

2 العلاقات بين روسيا والبلدان الإمبريالية

تندرج اليوم العلاقات المتناقضة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، الناتجة عن « الحرب الباردة »، في إطار التوسع العالمي للرأسمالية وانتقال الاتحاد السوفيتي السابق إلى الرأسمالية. وليست هذه السيرورة دون آلام.

(1) أدى تفكك الاتحاد السوفيتي السابق إلى جملة حروب. وفي القوقاز، حيث تشابكت الصراعات حول البترول مع السياسة الداخلية الروسية، لم يخرج أي بلد من الأزمة الاقتصادية ومن الاضطراب السياسي. بدأ إلتسين الحرب في الشيشان من أجل تعويم شعبيته الآفلة ومن أجل انتخاب خلفه المختار في الانتخابات الرئاسية اللاحقة. وفيما بعد واصل بوتين الحرب بقوة اكبر من سابقه، واصبح النزاع وسيلة لتشكيل قاعدة لسلطته وتثبيت حكمه.

جرى الغزو في سياق حرب الحلف الأطلسي في البلقان وفي شروط سياسية مختلفة عن الاجتياح الروسي السابق والكارثي للشيشان عام 1994. تتميز هذه الحرب، التي شنت بتواطؤ القوى الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، باسم « الحرب ضد الإرهاب »، بجرائم الحرب والمذابح المقترفة بحق السكان والاغتصابات واعمال التعذيب والنفي.

وكانت الحرب أيضا محاولة لرفع معنويات الجيش الروسي وقدرته الدفاعية، عام 1994 عارضت هيئة الأركان غزو الشيشان لكنها أيدته دون تحفظ عام 1999. كما ساهمت في إعادة بناء الشوفينية الروسية التي هوت مع انهيار الاتحاد السوفيتي ثم بعد هزيمة 1994 في الشيشان. ووجهت علاوة على ذلك تحذيرا إلى باقي الجمهوريات المستقلة ذات الميول الخجولة إلى الاستقلال.

كما كانت استجابة للمصالح الاستراتيجية الروسية، لاسيما السيطرة على البترول، الذي يدفع روسيا ان توسيع نفوذها في منطقة بحر قزوين. لم يكن ثمة أي مشروع لمد خط أنابيب جديد يتفادى الشيشان ويجد منفذا إلى البحر الأسود. وجب، من اجل بقاء روسيا فاعلا رئيسا في المنطقة، تأمين الاستقرار والتحكم السياسي. تتمثل مهمتنا في إبراز الاضطهاد الروسي للشيشانيين ودعم حقهم في تقرير المصير دعما لا لبس فيه.

ان أوكرانيا التي شهدت انكفاء اقتصاديا اخطر مما شهدت روسيا لم توطد إطارا سياسيا-مؤسسيا مستقرا. وتظل مهددة بانفصال المناطق الغربية المتجهة اكثر نحو أوربا الوسطى والشرقية عن المناطق الشرقية الواقعة تحت نفوذ الجار الروسي. ويمثل مصيرها رهانا كبيرا: يتوقف توازن هذه المنطقة برمتها، وإلى حد بعيد، على تطور هذا البلد الذي من شأنه إما ان يندمج بمنطقة نفوذ قوى الحلف الأطلسي، او يدخل حضن روسيا بإعادة الروابط التي قطعها تشظي الاتحاد السوفيتي.

(2) تسعى البرجوازية الروسية الجديدة إلى استعادة منزلة القوة العالمية، مستعملة تعبئة تاريخها، ووعيها القومي، وعلاقاتها الدولية مع بلدان متعارضة تقليديا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقوتها الإنتاجية، ومواردها الطبيعية، ويدها العاملة المؤهلة، وخصوصا قدرتها على الإضرار العسكري. لكن انتقالها خاضع إلى حد كبير للرأسمال العالمي الكبير وللإمبريالية. إن هذا الاندماج في السوق العالمية سيرورة صراع يتدخل فيها بدوره تنافس الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي. يسعى الطرفان إلى الاستحواذ على ملكية الأرض والصناعة والمواد الأولية انطلاقا من تأطير مؤسسي مالي وضغط منهجي على الانتقال إلى الرأسمالية. ويحاول الاتحاد الأوربي، وألمانيا بطليعته، القيام بتقارب ديبلوماسي واقتصادي في إطار علاقة هادئة ( اعتبارا للقرب الجغرافي ولسياسة التوسيع نحو الشرق ولضعفها العسكري )، بينما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تطويق روسيا ضمن سياستها العالمية المندفعة للسيطرة.

 

3. أمريكا اللاتينية بوجه الإمبريالية الأمريكية

تشهد أمريكا اللاتينية، لاسيما أمريكا الجنوبية، وضعا استثنائيا. تترافق حدة الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية مع تقلقل سياسي-مؤسسي متنام وشدة مقاومة اجتماعية واسعة وجذرية. فقدت سيرورة الإصلاحات الليبرالية المضادة جزءا من شرعيتها، لاسيما منذ هز التمرد الشعبي الأرجنتين. وتشتد أزمة القيادة السياسية للبرجوازية. وشمل مناخ انتفاضة وعصيان شعبي بلدانا عديدة بالمنطقة. ويمثل انتخاب لولا في البرازيل وغوتييريز Gutiérrez في ايكواتور، وكذا حجم التصويت على ايفو موراليس Evo Morales في بوليفيا، علامة تراجع نفوذ السياسات النيوليبرالية وانهاك الأحزاب البرجوازية. وترتدي هذه المرحلة الجديدة من صراع الطبقات طابعا انتقاليا لا جدال فيه بقدر ما يظل تطور ميزان القوى بين الاتجاهات الثورية والمضادة للثورة مفتوحا.

من السابق للأوان جرد حصيلة أثر انتصار لولا وحزب العمال على صعيد القارة. ثمة من جهة واقع أن لولا وحزب العمال يجسدان منذ سنوات الحركة الاجتماعية المنظمة بالبرازيل، مما يوقظ آمالا ومن شأنه أن يسهم، في البرازيل وخارجه، في حفز دورة نضالات اجتماعية. وثمة، من جهة أخرى، ما أبدته الحكومة البرازيلية الجديدة من « اعتدال » والتحالفات مع قطاعات واسعة من الطبقات السائدة، ويتمثل الرهان الأصلي في البحث عن تغييرات دون قطيعة في ظل استمرار عدد من الاختيارات السياسية لحكومة كاردوزو، ودعوة الناخبين إلى « الصبر » اللذين قد يؤديا إلى نتائج عكسية. يمكن ان نشهد على هذا النحو تفككا للتعبئة اذا تأكدت سياسة « الاعتدال » وبرزت خيبة أمل عميقة إزاء حكومة لولا.

من جهتها تعيد الإمبريالية الأمريكية تنظيم استراتيجيتها مع هدفين: إرساء سيرورة تبادل حر على صعيد القارة واعادة الاستعمار الاقتصادي ( منطقة التبادل الحر بدول أمريكا، خطة بويبلا باناما، الدين الخارجي، الخضوع التام لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي) من جهة، ومن جهة أخرى تطوير القوى العسكرية والقمعية من اجل سحق المقاومات والنضالات الشعبية ( خطة كولومبيا، قواعد عسكرية، تدخل منظمة الدول الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية). وتترافق الاستراتيجية القارية للانتفاضة المضادة مع عمليات متعددة الأطراف في أفق قوة تدخل أمريكية لاتينية، كنوع من الذراع المسلح « المضاد للإرهاب » لمنظمة الدول الأمريكية. وتكتسي إعادة التنظيم هذه فعلا طابعا مؤسسيا. ويجري إحياء منظمة الدول الأمريكية وبناء منظومة فكرية حول « تضامن ديمقراطي » لبلدان القارة ( الميثاق الديمقراطي لبلدان أمريكا المصادق عليه في ليما بعد 11 سبتمبر)، الذي يمفصل « الدفاع عن الحقوق الإنسانية » و« سياسة إقليمية » جديدة. وفي الوقت ذاته يجري تحديث أدوات القمع وُيضمن إفلات إرهاب الدولة من العقاب و« التطهير الاجتماعي » لـ« الحثالة الاجتماعية » (أرجتين، كولومبيا، غواتيمالا، تشياباس، البرازيل). يدعي هذه « الحكم » gouvernance المشترك بين دول أمريكا إرساء حق تدخل بالتخلص كزبل من مبادئ عدم التدخل واحترام السيادة القومية المنغرسة بعمق بالبلدان المطبوع تاريخها بكامله بالنضالات المعادية للإمبريالية والمناوئة للتدخل الأجنبي.

تسارع كل من الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية للـ« النموذج النيوليبرالي » وأزمة مشاريع الدمج الإقليمي الخاضع (ميركسور، مجموعة الأنديز للأمم، سوق أمريكا الوسطى المشتركة) بعد الانهيار المالي سنتي 1997-1998، والهجوم لإرساء منطقة التبادل الحر بالدول الأمريكية. ويستتبع هذا «  الميثاق الاستعماري الجديد » ترحيلا هائلا لمختلف الموارد نحو المجموعات الإمبريالية الكبرى ( تروستات صناعية-تجارية-مالية) ونحو أقلية من شركائها المحليين. ويغذي هذا المشروع فسادا هائلا وتطفلية مميزة لطبقة سائدة تثق في حساب بنكي بالولايات المتحدة الأمريكية أو سويسرا أو أي جنة ضريبية أكثر من بلدها نفسه. ويستتبع ترحيلا للثروة يعادل تدمير شرائح اجتماعية عن آخرها، ومستوى غير مسبوق من تركز الثروة، وخرابا اجتماعيا، وأزمات اقتصادية مالية وانحسارات متزايدة العمق. وتؤدي الصدمة إلى تدمير صناعة بلدان كانت تشهد، مثل الأرجنتين، تطورا نسبيا. أدت الضربات الموجهة من عولمة الرأسمال، التي تجبر البلدان« المتخلفة » على ربط اقتصادها بمنطق « التقويم الهيكلي » وسداد الدين الخارجي، بقصد إرضاء متطلبات البلدان الإمبريالية والمجموعات متعددة الجنسية، إلى تدمير قدرات هذه المنطقة. لقد جرت عمليا خصخصة كل شيء وما لم يخصخص معروض للبيع: احتياطات الماء والبترول، والكهرباء، والأراضي، والمناجم، والموانئ، وخدمات الصحة … ويطول الفقر 46% من سكان أمريكا اللاتينية، وبلغت البطالة ونقص الاستخدام نسبة 40%. وفي الوقت ذاته تفرض أزمة شرعية وقدرة حكم النخب البرجوازية آليات وتشريعات تحكم اجتماعي وتقليص للحريات الديمقراطية « للمجتمع المدني ». تفرض الدولة « الديمقراطية » كل يوم مزيدا من صلاحياتها البوليسية والتسلطية والقمعية بوجه كل مظهر من مظاهر الاحتجاج والمعارضة. وتتمثل إحدى المفاتيح الأساسية لافتقاد الخطاب السائد الشرعية والتماسك في أزمة « النموذج النيوليبرالي » المميزة للطور الحالي من العولمة الرأسمالية وفي فشل « تحديث التخلف ». وحتى داخل الطبقات الوسطى، لم تعد وعود رعي مصلحة المستهلك consuméristes تغري سوى قطاعات ضيقة، وتنتقل الأغلبية إلى صف المعارضة المناضلة في شكل تعبئات وتصويت احتجاج أو امتناع. وبلغت هذه الأزمة خط غطس« الديمقراطية التمثيلية ». وتعرضت المؤسسات لتأزم بفعل النضالات الديمقراطية الجماهيرية التي أسقطت في السنوات الثلاث الأخيرة عددا من الرؤساء المنتخبين، أو المعاد انتخابهم، أو المفروضين من برلمانات.

في هذا الإطار تبدو أهداف واشنطن جلية: سحق الحركة الشعبية النامية ومظاهرات العصيان المدني المتصاعدة والنضالات الاجتماعية الجذرية، وقلب مسار التمرد الشعبي بالأرجنتين، وكسب حكومة لولا بالبرازيل أو تحييدها ، وسحق المقاومة المسلحة، والسطو على موارد البترول في كولومبيا، وزعزعة حكومة تشافيز المتهمة بخطاب قومي وبالتحالف مع كوبا، وسحق مقاومة الزاباتيين في تشياباس والجماعات الأهلية والفلاحين وبوبلادوريس pobladores والنقابيين المعارضين للنهب الناتج عن خطة بويبلا باناما، والحفاظ على الحصار المفروض على كوبا وإنزال هزيمة نهائية بها، وخلق شروط« استقرار ديمقراطي » يشجع استثمارات الرساميل الأمريكية المتنافسة حول هذه الأسواق مع الاتحاد الأوربي.

نشهد في آن واحد اندفاع النضالات الشعبية الجماهيرية واعادة تنظيم الحركات الاجتماعية واعادة تشكل وعي طبقي. إن المرحلة الصعبة باتت إذن متجاوزة. وبرغم استمرار أوضاع تشظ وبلبلة، تكتسي سيرورة التقويم الأكيدة هذه، مع تشريك مختلف تجارب النضال، طابعا واسعا وجذريا حاملا لمطالب وبرامج تجمع عناصر اقتصادية واجتماعية وسياسية، ديمقراطية وبيئية وثقافية واثنية. لم يوقف هذه السيرورة لا التسميم الإيديولوجي بعد هجمات 11 سبتمبر ولا الحملة الإرهابية للإمبريالية ووسائل الإعلام. على العكس، تعزز التقاطب الاجتماعي بعد 11 سبتمبر. إن « الارجنتينازو » والانتفاضة الشعبية ضد الانقلابيين في فنيزويلا ونمو الاحتجاجات والإضرابات و« مسيرات الطنجرات » caceroleos الجماهيرية في أوروغواي وبوليفيا والبيرووايكواتور وكولومبيا تؤكد أننا فعلا إزاء مرحلة جديدة من صراع الطبقات.

تـُخاض نضالات هذه الحركات الاجتماعية حول مطالب وبرامج ذات طابع« مناوئ للنيويبرالية »، لكنها تندرج في دينامية ملموسة للمقاومة المعادية للإمبريالية وللرأسمالية. تلك حالة حركات ونضالات كالتي ينظمها تنسيق الدفاع عن الماء والحياة بكوشابامبا Cochabamba، ومزارعي الكوكا في تشابار Chapare، ومسيرات الفلاحين في بوليفيا، ومسيرات كوناي CONAIE في ايكواتور، وحركة معدومي الأرض في البرازيل، والزباتيين في تشياباس، والتعبئة المحفزة من المجلس الديمقراطي للشعب في باراغواي، والتنسيقات الإقليمية كتلك التي منعت الخصخصة في اريكيبا Arequipa وكيزكو Cuzco ، والمدرسين والطلاب والهنود مابوش في الشيلي، و« بوبلادوريس » في بييكس Vieques، وشغيلة القطاع العام، والحركات الشعبية في كولومبيا. وتعبئات لا تحصى نقابية وفلاحية (كانت منظمة بيا كامبيسينا محركها الأساسي)، والعاطلين (حركة بيكتروس امتدت إلى شتى البلدان)، وحركات الزنوج والنساء ومناضلي الدفاع عن الحقوق الإنسانية وضد اللاعقاب والطلاب و« بوبلادورس » والإذاعات الجماعية، كلها عناصر تمفصل شتى أبعاد هذه المقاومة التي لها خصائص هجوم مضاد، برغم طابعها الجزئي. يمثل « انبعاث » الشعوب الأهلية، التي انتصبت ضد إحياء الذكرى 500 لغزو القارة الأمريكية، ومنظماتها ومطالبها، عنصرا مميزا لهذا الوضع الجديد. وكذلك شأن استمرار الكفاح المسلح في كولومبيا، رغم تعرضه لحرب لا هوادة فيها وحيث الضحايا يُحسبون بعشرات الآلاف.

لا تنحصر كل هذه النضالات في القطاعات الطرفية ضحية « الإقصاء الاجتماعي »، وليست من فعل « حشود » لا شكل لها وانتقائية ومن غير مرجع طبقي. إنها على العكس تمس قطاعات متسعة باطراد من الطبقات المستغلة، وتحقق الالتقاء مع حركة مقاومة للعولمة الرأسمالية في عز ازدهارها، وتنضم إلى شبكات التضامن والحملات والمواجهات الكبرى مع المؤسسات المالية الدولية، وتؤكد من خلال ذلك تجددا للروح الأممية التي تجلت بكثافة في سياتل وصولا إلى المنتدى الاجتماعي في بورتو الليغري. ويتشكل في حركة المعارضة هذه، وازدهار النضال الطبقي هذا، يسار اجتماعي راديكالي جديد، يفعل في هذه السيرورة، ويحفز حركات التمرد، ويؤثر في ميزان القوى، ويعمل يوميا في بناء « سلط مضادة » كامنة. وقد سرع «  الاجنتينازو » إعادة تشكل الحركة الشعبية هذه وتجذرها. يتعلق الأمر بحدث تاريخي حاسم في تاريخ صراع الطبقات بأمريكا اللاتينية. يجب طبعا تجنب الاستهانة بقدرة البرجوازية والإمبريالية على فرض مخرج مضاد للثورة (أو اللجوء إلى القمع كما حدث في شهر يونيو بالأرجنتين)، لكن قوة الحركة الشعبية تتيح توطيد أشكال تنظيم جديدة وديمقراطية قاعدية ببطء.

تتلاقى النضالات الجماهيرية في الأرجنتين وأمريكا اللاتينية برمتها مع تمردات سياتل وجنوة، ومع الحركة المناوئة للعولمة الرأسمالية، والتمردات والعصيان المدني والاحتجاجات، واكثر من ذلك مع التجذر الباهر لقسم متسع باستمرار من الشباب على صعيد العالم. وفي حالة أمريكا اللاتينية تقوم تعبئة النساء، عاملات او عاطلات او ربات بيوت، بدور أساسيا في إعادة تشكل يسار اجتماعي جذري.

يفاقم تقاطب صراع الطبقات الحاد هذا العلاقات والنقاشات داخل يسار أمريكا اللاتينية حول مسألة الاستراتيجية الواجبة. ويفتح ثغرة جلية في الجدار الفاصل بين المقاومة الاجتماعية والمشروع السياسي البديل. وتعود مسألة تمفصل المقاومة الاجتماعية مع منظور استراتيجي للسلطة بمزيد من القوة والجلاء. يخلي رهان « إصلاح او ثورة » اليوم المكان لإلحاحية تركيب الإصلاح والثورة من اجل « تغيير النظام القائم » كما اقترحت روزا لوكسمبورغ. وتبدو الهوة كل يوم اكثر جلاء بين اليسار الجذري المنخرط بلا مراء في المواجهة والقطيعة مع النظام القائم واليسار الآخر المتجه في أفق استراتيجي لا يتجاوز الظفر بالمؤسسات وتغييرات دون قطيعة. يخترق هذا التناقض حكومة لولا بالبرازيل وحكومة غوتييرز بايكواتور وحتى حكومة فرانتي امبليو بأوروغواي إذا أصبحت هذه الفرضية واقعا رغم ان الخيار النيوليبرالي هو الغالب في تلك الحكومات في هذه المرحلة.

ومع ذلك تقلصت كثيرا المساحة المتاحة لـ« النزعة التقدمية » بأمريكا اللاتينية بفعل حجم الأزمة الاستثنائي وتبعية رأسماليات مختلف البلدان وجبروت الإمبريالية. هذا ما تبينه التجربة الكارثية لحكومة اليانزا Alianza بأرجنتين. وتمثل فنزويلا مثالا آخر: فبوجه سيرورة وطنية خجولة وشعبوية اجتماعية، قام اليمين والقطاعات الرجعية من الكنيسة والعسكر والشركات متعددة الجنسية بتنظيم الزعزعة، مما أفضى في الأخير إلى تجذر السيرورة.

 

4.تفكك القارة الأفريقية

اكتسى الهجوم النيوليبرالي في أفريقيا جنوب الصحراء طابعا عنيفا ومميتا بوجه خاص، لأنه يفاقم الوضع العام الكارثي أصلا لهذا القسم من أطراف النظام الرأسمالي العالمي. تقوم برامج التكييف الهيكلي، من خلال خصخصة منشآت الدولة وتحرير الأسواق، بتيسير سيطرة الشركات متعددة الجنسية على أقسام الاقتصاديات المحلية المربحة اكثر. إنها عملية إعادة استعمار مفاقمة تكتسي في بعض الحالات شكل حروب بالوكالة. تخوض أقسام استعمارية جديدة محلية، مرتبطة بالمصالح الإمبريالية المتنوعة، حروب تراكم بدائي للرأسمال ونهب للموارد الطبيعية (مناجم، طاقة) والحفاظ على احتكارات إمبريالية تقليدية. إنها حروب تمزق الأنسجة الوطنية، بفعل إضفاء طابع اثني عليها، مما يخلق اقطاعات خاضعة لقانون عصابات مافيا سياسية إجرامية جدا (انغولا، جمهورية الكونغو الشعبية، ليبريا، سيراليون، كونغو برازافيل). يؤدي هذا إلى مفاقمة وضع السكان في مناطق النزاع، ويضطرهم في الغالب إلى التيه مما يجعل أفريقيا جنوب الصحراء منطقة لاجئين كبيرة. هذا علاوة على وضع العمال المعرضين لاعادة هيكلة النفقات الاجتماعية، والتسريحات الواسعة، ووقف الاستخدام. ورغم وضع الكارثة هذا، تبقى النخب المحلية، بتبنيها نيباد NEPAD (الشراكة الجديدة لاجل تنمية أفريقيا) المكفولة من مجموعة الثمانية الكبار (في كناناسكيس في 2002) والشركات متعددة الجنسية (داكار 2002)، مشدودة إلى إجماع واشنطن. انه وعد بمفاقمة الوضع الاجتماعي لغالبية شعب أفريقيا.

 

5. الوضع التفجري في آسيا

ان اثر التحولات العالمية الجارية على آسيا عميق وتفجري بوجه خاص. ويطول كافة المستويات الديبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية.

أعيد النظر في التراصفات الدولية الخاصة بحقبة الحرب الباردة، لا سيما في آسيا الجنوبية والغربية، دون ان يحل مكانها نظام تحالفات مستقر جديد. واحتدت، في إطار الفوضى العالمية الجديدة، التوترات بين الدول لدرجة تسريع انتشار السلاح النووي ( تواجُه باكستان والهند وابتزاز كوريا النووي إزاء الولايات المتحدة القوة النووية العظمى المحتلة لكوريا الجنوبية).

وفي آسيا الشرقية بدأت أول أزمة كبرى مسماة « مالية » شهدتها العولمة النيوليبرالية في 1997-1998 مع عواقب مستديمة: سيرورة (إعادة) استعمار اقتصادي، وتمزق النسيج الاجتماعي (كوريا الجنوبية)، وزعزعة الاستقرار السياسي ( أزمة نظام إندونيسيا البنيوية)، ونزع شرعية المؤسسات الدولية لاسيما صندوق النقد الدولي (هامش مناورة مؤقت فازت به ماليزيا)، وركود مستديم (اليابان).

وأبعد من احتلال أفغانستان، كان للوجه العسكري للعولمة الرأسمالية مضاعفات خطيرة جدا على آسيا. تعيد الإمبريالية الأمريكية نشر قواتها في المنطقة برمتها. وتقيم قواعد جديدة في مناطق لم تكن لها فيها (جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق)، وتعزز من جديد وجودها في بلدان اضطرت إلى تحجيمه فيها، تلك بوجه خاص حالة الفليبين، مستعمرتها السابقة، حيث أرسلت قوات أمريكية حتى إلى مناطق القتال. وحصل البانتاغون، بفضل "الاتفاق حول القوات المقيمة" VFA على ولوج لامحدود إلى تجهيزات البلد العسكرية. تتوخى الولايات المتحدة هنا، كما في مناطق أخرى، أهدافا محلية: افضل ولوج إلى ثروات الزراعة والبترول والمعادن بجنوب الفليبين. وإقليمية: مراقبة إندونيسيا، والاستعداد لتدخل محتم في بحر جنوب الصين، والتحكم بالمضايق بين المحيطين الهندي والهادي معبر بترول الشرق الأوسط نحو اليابان.

تسعى واشنطن، بوجه الصين، إلى إعادة بناء وإتمام خط المراقبة القديم العائد إلى الحرب الباردة، الممتد من سيول إلى مانيلا مرورا بطوكيو وتايبيه. هنا أيضا تكتسي المطامع الإمبريالية للولايات المتحدة طابعا اقتصاديا (التحكم بمخزونات البترول والغاز وتدفقاتها التجارية)، وجيو-استراتيجيا (توطيد عناصر أساسية لإعادة انتشار عسكري على نطاق عالمي).

من كشمير إلى شبه الجزيرة الكورية، مرورا بمينداناو وأرخبيل إندونيسيا، تضيف عقيدة التدخل الأمريكية الجديدة والإيديولوجية « المضادة للإرهاب » عقبة إضافية بوجه السعي إلى حلول سياسية للصراعات الترابية، وهي حلول مبنية على الاعتراف بحق الشعوب المعنية في تقرير مصيرها. وتسهمان في تجريم الحركات الشعبية والثورية وضرب الحريات الديمقراطية الأساسية. وتسعى العولمة الرأسمالية في هذه المنطقة أيضا إلى مفاقمة الاضطهاد على أساس النوع، والتوتر بين الطوائف، وتشجيع صعود قوى للتيارات الطائفية والأصولية اليمينية المتطرفة. تلك هي الحال حتى في بلدان لم يُستشعر بها ضغط العولمة الاقتصادية إلا بشكل متأخر نسبيا مثل الهند: مال قسم هام من برجوازية هذا البلد نحو حزب الشعب الهندي [10] BJP لفرض الإصلاحات الليبرالية المضادة متيحة لتيارات النزعة الهندوسية hindutva تهديد أسس الدولة العلمانية.

وستفاقم الحرب التي تحضرها واشنطن بالعراق، وما سينجم عنها من احتلال عسكري، تناقضات المنطقة التي سبق أن أججها التدخل بأفغانستان. ولا يمكن بخس قدر عواقب تلك الحرب في وقت توجد بآسيا بؤر أزمات كبيرة: العلاقات الصينية الأمريكية (بما فيها تايوان)، وشبه الجزيرة الكورية، وأفغانستان-باكستان-الهند وإندونيسيا-الفليبين-بحر جنوب الصين.

تجنح عدد من الأحزاب التقدمية والثورية بآسيا، في ظل هكذا وضع، إلى نسج علاقات تضامن أوثق مما شهد الماضي. وتنسق الحركات الاجتماعية والجمعيات والحركات المناضلة من اجل السلم بفعالية متنامية حملات مشتركة ضد ديناميات الحرب ومن اجل حقوق الشعوب. ومن شأن اجتماع المنتدى الاجتماعي العالمي بالهند في يناير 2004 أن يمد هذا التضافر النضالي ببعد جديد.

 

6. قوة الرأسمالية المعولمة وضعف المؤسسات الدولية

(1) يتطلب بزوغ رأسمالية معولمة قيام حكومة عالمية للتحكم بالتناقضات المتكاثرة والمتزايدة حدة وعدوى وانفلاتا منذ نهاية الحرب الباردة. لكن هكذا دولة-حكومة تظل خارج منال الإمبريالية.

لكن الميل الغالب في العقد الأخير هو بزوغ وتوطد جملة مؤسسات دولية من طبيعة دولانية. تبنت الطبقات السائدة، رغم نزاعاتها، فكرة إقامة « نظام جديد » إمبريالي. وبشكل عفوي حفزت العولمة الاقتصادية، التبخرية جدا، أدوات ضبط سواء على الصعيد الإقليمي-القاري او العالمي. ويتمثل مفتاح العقد في صندوق النقد الدولي (علاوة على البنك العالمي)، والمنظمة العالمية للتجارة. وعدل الحلف الأطلسي ميثاقه وبات يفرض نفسه بما هو الذراع المسلح للإمبريالية الشاملة. وتحاول مجموعة الدول السبع الكبرى (+ روسيا) تأمين وجهة سياسية مشتركة. وتتسع سيرورة العولمة المؤسسية على صعيد العدالة (محكمة لاهاي ، المحكمة الجنائية الدولية …)، ومؤسسات أخرى قوية جدا اقل بروزا على صعيد الإعلام (منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، بنك التسويات الدولية).

(2) ترتطم محاولة تثبيت هذه المؤسسات الدولانية المشتركة، وإضفاء شرعية عليها، بتناقضات هامة: تنافس القوى العظمى ذاتها اقتصاديا وسياسيا (بما فيها التكتلات الاقتصادية الإقليمية)، والطابع الظالم لسياساتها الاجتماعية(ضد العالم الثالث)، وافتقاد شرعية ديمقراطية انتخابية، والانحياز الصريح في صراعات كبرى (العراق، رواندا، فلسطين، صربيا). منذ البداية كانت شرعيتها الشعبية محدودة. وكشفت التعبئات« المناهضة للعولمة » تناقضاتها. وسُتمتحن قدرتها على حكم الكوكب امتحانا عسيرا بوجه الاضطرابات البادية في الأفق بفعل السياسة الحربية للحكومة الأمريكية والتحكم بالانحسار الاقتصادي الجاري.

ومن جهة أخرى أدى الدور الغالب لهذه المؤسسات غير المنتخبة، حيث تسيطر الهيئات التنفيذية، واستراتيجية الولايات المتحدة أحادية الجانب إلى مفاقمة تهميش منظمة الأمم المتحدة (بما فيها مجلس الأمن)، بينما سبق للأمم المتحدة (جمعيتها العامة وهيآتها التابعة) أن قدمت إطارا مؤسسيا يتيح مساءلة البلدان الإمبريالية و« إخضاعها لشروط » وتطبيق بعض السياسات« التقدمية ».

العامل الذي ُيخضع كل هذا البناء المؤسسي هو تفوق الإمبريالية الأمريكية التي تقوم اكثر فاكثر بدور دولي واحادي الجانب في ذات الوقت.

(3) ان سياسة الولايات المتحدة، المتعجرفة والعنيفة وأحادية الجانب، بما في ذلك إزاء حلفائها، تفرز حدودها الخاصة لأنها بحاجة إلى قسمة عمل، وتقاسم النفوذ والموارد وكذا بناء تكتلات مع حلفائها-منافسيها الرئيسيين وقوى إقليمية ثانوية. لكن سيرورات تركز وتدويل الاقتصاد الجارية تضرب أيضا، في إطار تنافس يزداد شراسة، قطاعات من الطبقات السائدة. ومن ثمة الخلافات داخل هذه الأخيرة حول الوسائل والوتيرة والأهداف الملموسة والتوقيت والبنيات الواجبة لبلوغ الهدف المشترك، وهو ما ينعكس على صعيد المجموعات السياسية الحاكمة محدثا نزاعات متعددة وصراعات خفية وتمزقات متواترة.

 


سادسا: الرأسمالية الجديدة والركود العالمي

بددت نهاية الدورة المسماة« الاقتصاد الجديد » بالولايات المتحدة الأمريكية أوهام ظهور رأسمالية جديدة. لم ُتحقق مكاسب الإنتاجية المسجلة إلا بواسطة جهد استثمار بالغ وتشديد للاستغلال اكتسى شكل تمديد لوقت العمل. وبعيدا عن تأسيس نموذج ثابت، وفتح طور نمو جديد، اصطدم هذا التراكم الفائض لرأس المال بإكراه كلاسيكي جدا، إكراه المردودية. أتاحت هذا الاستدارة إبراز العناصر الأساسية لعدم استقرار الرأسمالية المعاصرة.

كانت دينامية النمو بالولايات المتحدة مدعومة بعجز تجاري لا يمكن السماح به في بلد غير بلد القوة الإمبريالية المسيطرة. ان فائض القيمة المتراكمة في أوربا أو اليابان هو الذي يمول ازدهار التكنولوجيا العالية.

يستحيل إذن، بحكم التعريف نفسه، بسط هكذا نموذج على مجموع الاقتصاد العالمي. بل على العكس يفاقم التناقضات بين الإمبرياليات التي غالبا ما تتجلى على الصعيد النقدي. يكاد نمو اليابان يبلغ الصفر منذ عشر سنوات ، ويعود ذلك جزئيا إلى تقويم عملة الين بأكثر من قيمتها. وليس الصعود الحديث لليورو علامة قوة خاصة، بل انعكاسا لتغير توجه الولايات المتحدة التي قررت خفضا للدولار قصد استعادة تنافسية منتجاتها.

ويمثل انفجار الفقاعة المالية، التي تشكلت مع ازدهار اقتصاد إنترنت تذكيرا عنيفا بقانون القيمة: ليست البورصة خالقة القيمة، وليست الأرباح المالية الا مداخيل مشتقة من استغلال العمل. لم يعد لارتفاع الأسعار أي علاقة بالاقتصاد الفعلي، ويتعذر دوامه إلى الأبد. إن انهيار البورصة الزاحف درس بليغ حول أوهام المالية. يتعين على أجراء العالم ان يتأملوا إفلاس إنرون الذي يعني بالنسبة لآلاف العمال فقد تقاعدهم الموظف في اسهم منشآت علاوة على فقد عملهم.

وعلى نحو أوسع، يمكن اعتبار ان التوجهات النيوليبرالية تواجه اليوم تجارب واسعة النطاق تتيح ملاحظة مضرتها. ليس ملايين العمال ببلدان عدة، من الأرجنتين إلى كوريا ومن إندونيسيا إلى كوت ديفوار، من سينخدع بمزايا العولمة السعيدة. ان استحالة تطبيق سياسة صحة عمومية عالمية تحوز وسائل محاربة الإيدز، وغيرها من الاوبئة، يدل على ان قواعد البضاعة تأتي، لدى المنظمة العالمية للتجارة، قبل الحاجات الاجتماعية والصحية المستعجلة. يدرك السكان، بكل مكان بالعالم، ان لا علة للخصخصة غير المردودية. وقد أتيح للعمال بأوربا ان يلاحظوا ان الانتعاش الاقتصادي الأخير لم يفدهم، وان ثمار النمو مازالت تجنى من طرف أصحاب المداخيل المالية. وبعيدا من كونه مجرد لحظة سيئة عابرة وتكييفا لا غنى عنه، يبرز التقشف في الأجور على حقيقته بما هو قاعدة جديدة، بالغة الظلم، لتوزيع المداخيل.

تواجه الرأسمالية العالمية إذن وضعا صعبا حيث تتشابك مصادر داخلية للتوترات وفقدا كبيرا للشرعية بنظر غالبية سكان الكوكب التي ترى في هذا النظام،على نحو متزايد، مجرد عقبة على طريق تلبية حاجاتها الاجتماعية.

 


سابعا: سياسة الحرب ومواصلة السياسة النيوليبرالية

ستهيمن هاتان المسألتان على الوضع العالمي في 12 إلى 24 شهرا المقبلة، وستؤثر على حياة ملايين البشر ونشاط كل القوى السياسية والاجتماعية.

 

سياسة الحرب ضد الإرهاب

(1) كسبت الحكومة الأمريكية الحرب بأفغانستان بأقل كلفة وعززت سيطرتها. أبانت طبعا أنها تمسك بالاحتكار الديبلوماسي للوضع بالشرق الأوسط (حرب إسرائيل على شعب فلسطين)، لكنها لم تتمكن من استغلال هذا النصر لشن حرب جديدة ضد العراق. وتواصل إدارة بوش تأكيد عزمها على إطاحة صدام حسين بأي وسيلة. وفي انتظار ذلك، نجحت الحكومة الأمريكية في فرض الإطار الإيديولوجي والسياسي « للحرب ضد الإرهاب » على حلفائها(صغارا وكبارا) وإلى حد ما في جعلها خطا سياسيا عسكريا. وفي فلسطين وكشمير والشيشان وجيورجيا والفليبين وكولومبيا وفنزويلا تدعم او تتدخل عسكريا قصد خلق مناخ حرب دائمة يبرر هيمنتها متنامية الاستبداد.

2-1- إن فلسطين هي من جديد في قلب السياسة العالمية، بسبب الاحتدام المتجدد للعدوان الصهيوني ولمقاومة الشعب الفلسطيني المستمرة. إن التوسع الفعلي للدولة الصهيونية عن طريق إقامة المستوطنات، وطرقات الالتفاف والجدار، والهجمات ضد حقوق فلسطينيي دولة إسرائيل ونجاح قوات الاحتلال الإسرائيلية في سعيها لجعل الحياة غير محتملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة: التوقيفات والاغتيالات اليومية، وهدم المنازل المتواصل، والمؤسسات التجارية، والمصانع وجرف الأشجار المثمرة والزراعات الأخرى، كل ذلك قد خلق مناخاً يائساً يصيب في العمق أشكال مقاومة الشعب الفلسطيني.

2-2- إن الاحتلال الفظ والاستيطان المكثف للأراضي الفلسطينية بالتضافر مع السياق العالمي لـ"الحرب ضد الإرهاب" وإفلاس خيار أوسلو الذي كان وقعه حزب العمل، تخلق الشروط المناسبة بالنسبة للطرف الأكثر راديكالية في الحركة الصهيونية، الموجودة في السلطة عن طريق شارون وحلفائه، لكي يوضع على جدول الأعمال مشروع "الترانسفير" (أو الطرد الجماعي) للفلسطينيين من وطنهم. وقد يقدم خطر الحرب، الذي يهدد العراق، للقيادة الصهيونية فرصة غير مأمولة لوضع هذا المشروع موضع التنفيذ، تحت غطاء القصف الأميركي.

2-3- لقد استطاع شارون، مستعيناً بالحماية التي توفرها له الولايات المتحدة الأميركية، أن يتجاهل قرارات الأمم المتحدة من دون قلق، ويمعن في آن معاً في قتل السكان الفلسطينيين. ويأمل بوش أن يتيح له انتصار الولايات المتحدة في العراق فرض حل على الفلسطينيين يضعهم بالكامل تحت رحمة إسرائيل ويحول بينهم وبين تشكيل عائق أمام سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.

2-4- ينبغي أن نمارس مقاومة صلبة لمحور بوش/ شارون/ بلير. وعلينا أن نضع فلسطين في قلب نشاطنا المناهض للحرب، وعلى الأممية الرابعة أن تكون في صلب حركة التضامن مع نضال الفلسطينيين في كل من بلداننا وفي فلسطين بالذات، عبر المنظمات التي في طور النمو، كحركة التضامن الأممي التي تقدم فرصة فريدة للمشاركة الشخصية.

2-5- إن الأممية الرابعة ستبذل كل ما في وسعها من الجهد لأجل تعزيز حركة التضامن الأممي مع الشعب الفلسطيني، وذلك في سبيل حمايته، ولأجل ممارسته حقه في تقرير مصيره، وحق العودة لكل اللاجئين. كما يجب أن تفضح حملة تضامن أي مشروع ترانسفير، وأن تشترط انسحاب القوات الإسرائيلية من كامل الأراضي المحتلة منذ عام 1967، وتدعم مطالبة الفلسطينيين بتشكيل دولتهم الخاصة بهم، القابلة للحياة والحاظية بالسيادة. ولأجل وضع حد للعنصرية ولكل أشكال الاضطهاد، يكمن الحل في خلق دولة جديدة علمانية، موحَّدة أو ثنائية القومية، تضمن المساواة في الحقوق لجميع سكانها، بما في ذلك الحق في الأرض.

(3) لكن الحرب ضد العراق قد تكون امتحانا حاسما لميزان القوى والاصطفافات السياسية وخطوط القوى مستقبلا مشكلة « لحظة اعادة تحديد » لكل الوضع العالمي . آنذاك ستشعر كل القوى الدولانية والسياسية والاجتماعية بالانعطاف الذي تسعى الإمبريالية الأمريكية إلى فرضه على الكوكب . وهو يعلن معركة سياسية دولية مديدة وكبيرة. السؤال هو: هل بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية استعمال تفوقها الساحق لفرض سياسة الحرب هذه والمبادرة إليها بمفردها في الحالة القصوى وتحقيق انتصارات ومراكمة ميزان قوى وكسب قاعدة شعبية دولية والاستمرار حتى إنزال هزيمة « نهائية » تكون أيضا هزيمة للتطلعات الاجتماعية للجماهير الشعبية ومنظماتها ؟

(4) للتمكن من بدء الحرب ستصطدم الحكومة الأمريكية بثلاث عقبات رئيسة. أولها التناقضات القائمة داخل الطبقات السائدة الرئيسة والتي تثقل قدرتها على المبادرة. ستكون ثمة معركة سياسية في الانتظار (« نحدد الهدف وبعدها نشكل التحالف …) . ذلك انه، إلى جانب خطها المضاد للإرهاب، تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ مشروع الدفاع عن التراب ضد الصواريخ National Missile Defence ، ذلك المشروع العسكري الشامل الذي سيمنحها تفوقا كبيرا على الأصعدة العسكرية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية.

ثم ما مدى استعداد الشعب الأمريكي، الذي يعيش في ظل حملة تسميم قوية « ضد الإرهاب » قابلا « الدفاع الذاتي » عن التراب الوطني وعن حياته، لخوض حرب قاتلة في الشرق الأوسط ؟

ثمة أخيرا فرق كبير بين التفوق المادي والضعف المعنوي (الاجتماعي والإيديولوجي) للولايات المتحدة الأمريكية. فعلى الصعيد العالمي، نادرا ما بلغ الحذر وحتى الحقد إزاء حكومة الولايات المتحدة الأمريكية مستواه الحالي قوةً واتساعا. سيضغط هذا « العائق » بشدة على الحكومات التي سيكون عليها، بضغط أمريكي، ان تبرر هذه « الأزمة-الحرب » أمام رأيها العام. تمثل المعركة ضد الحرب الأمريكية وحلفائها أولوية على الصعيد العالمي.

 

2- مواصلة السياسة النيوليبرالية

تواصل الطبقات الرأسمالية هجومها النيوليبرالي مع ملاءمة سياستها مع المصاعب والمقاومات الجديدة.

(1) حققت السياسة النيوليبرالية لسنوات1980-1990 نجاحا باهرا للرأسمال. وفيما بعد لم يكن عقد النمو بالولايات المتحدة الأمريكية، ولا الانتعاش الاقتصادي في السنوات الأخيرة بأوربا، ولا الدمج الجزئي للأطراف، مفيدا بأي وجه للجماهير الشعبية المدعوة لتقديم « تضحيات » لاعادة إطلاق الآلة. لم يكن للطبقة الرأسمالية، ممتطية ميزان القوى هذا، أي عزم ، ساعة قدوم الانكماش، على تقاسم « ثمار التوسع ». على العكس ُتقدم « المصاعب » الاقتصادية الآنية مبررا لمواصلة وتشديد وصفات النيوليبرالية نقطة نقطة.

(2) باتت السياسة الشاملة للنيوليبرالية تصطدم بمشكل قابلية تحقق ومصداقية ضخم. لم تفض العولمة الرأسمالية إلى حرب(أفغانستان) وحسب، بل أدت السياسة النيوليبرالية المطبقة حتى النهاية من طرف الشركات متعددة الجنسية والمؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة وبنك التسويات الدولية ومجموعة 7+1 الكبار) إلى انهيار اقتصاد الأرجنتين (ومجتمعها)، مع تورط الحكومة الأمريكية المباشر. ويستتبع إفلاس إنرون، الأكبر في التاريخ وفي قلب قلعة الرأسمالية العالمية مراجعة قاسية لبنيات الرأسمال المالي نفسها وكذا لقواعد حكم المنشأة corporate gouvernance ( دون الحديث عن الكارثة الاجتماعية المتمثلة في فقد كلي لمعاشات تقاعد العمال القائمة على الرسملة).

لا يمكن لقادة الرأسمالية العالمية ان يتفرجوا بسلبية على تفسخ عقيدتهم ومآزق سياستهم الاقتصادية. اذا لم يدعوا قيام فوضى يزعمون التحكم بها (ذلك ما يفعلون بخصوص أفريقيا) فانهم مضطرون لفتح نقاش قد يبرز غباوة سياستهم.

(3) يمارس الانكماش تأثيرا متناقضا على ميزان القوى (الاجتماعي والإيديولوجي والتنظيمي) بين الطبقات الأساسية. فهو يدفع البروليتاريا موضوعيا إلى خط دفاعي مع خطر تراجع مأساوي آخر لشروط حياتها وقدراتها على إعادة التنظيم. ومن جهة أخرى، لا شك انه حطم كل وهم حول استعداد الرأسمالية، بعد عشرين سنة من النيوليبرالية المتواصلة وثلاث أطوار ظرفية ( انكماش وانتعاش وانكماش جديد)، لتحسين مصير البروليتاريا. وقد بات هذا يدفع إلى معارك اجتماعية ضارية، حتى دون ضمان بديل، ومنظور وتنظيم صلب. لقد تم دخول دورة نضالات جديدة اشد ضراوة وأكثر اتساعا، لكنها أيضا أصعب، حول مطالب آنية وجزئية، لكنها تستثير بشكل شبه عفوي الحاجة إلى حلول إجمالية، وتعيد طرح « المسألة السياسية » (الحكومة ودور الأحزاب السياسية). سيكون لهذه الخبرة الطويلة مع السياسة النيوليبرالية، ومع ما فرضت من قوى سياسية واجتماعية، دور أساسي في التوضيح السياسي على نطاق جماهيري وفي انبعاث حركة عمالية واجتماعية مجددة التنظيم والنشاط على كافة الأصعدة ( العدد، الالتزام السياسي، النشاط، التنظيم الذاتي، المطالب والبرنامج المعادي للرأسمالية).

 


ثامنا: الأزمة الاجتماعية على الصعيد العالمي

(1) بوجه هجوم الرأسمالية العام هذا، الذي سجل نقاطا عديدة لصالحه في السنوات الأخيرة، تطورت أشكال مقاومة عديدة. ويمثل فشل المنظمة العالمية للتجارة في سياتل، بعد التخلي عن مشروع الاتفاق متعدد الأطراف حول الاستثمار، حدثا سياسيا حقيقيا. فلأول مرة ساهمت حملة عالمية، وأممية من اوجه عديدة، في إنزال هزيمة بأسياد العولمة. وهذا الفشل ثمرة تناقضات عديدة تضافرت وأفضت إلى فشل التفاوض: تناقض بين المصالح الرأسمالية الأوربية والأمريكية لا سيما حول الإعانات المقدمة للزراعة، والحواجز التجارية من كلا الطرفين، والتناقض مع مصالح البلدان النامية المطالبة بمعاملة خاصة ومتمايزة والعاجزة على التباري مع تنافسية الاقتصاديات المتقدمة بفعل ضعف إنتاجيتها وعبء الدين، والتناقض مع التطور الواسع في وعي الرأي العام لمساوئ الليبرالية الذي ترمز إليها مظاهرات النقابات والجمعيات الناجحة في إرباك مجريات مؤتمر المنظمة العالمية للتجارة.

(2) إن الأزمة البيئية غير المسبوقة مرتبطة مباشرة بتحويل العالم إلى سلعة في إطار العولمة الرأسمالية. وهي تؤدي إلى تدهور البيئة أي شروط الحياة في مجموع الكوكب، لكنها تصيب بتفاوت المناطق والشرائح الاجتماعية الأضعف والأفقر. وبات ما تكبدت البيئة من خسائر يهدد بقاء البشرية. ولا يكف تحويل المادة الحية إلى سلعة عن التقدم، مستندا على تقنيات جديدة غالبا ما يكون آثرها على البيئة غير متحكم به ولا حتى معروفا أحيانا. كما انه يحبل بخطر تبعية متزايدة لبلدان الجنوب، سواء على المستوى الغذائي او التكنولوجي. ويمثل هجوم كبريات الشركات متعددة الجنسية العاملة في مجال الصناعات الغذائية لفرض الأجسام المعدلة جينيا تعبيرا عن هذا الوضع.

ولم تحقق مؤتمرات دولية متتالية غير نتائج هزيلة: تعود مسؤولية ذلك إلى القوى العظمى، ومنها في مقام أول الولايات المتحدة الأمريكية. إن المقاربة الحازمة لمشاكل البيئة، وكذا لمشاكل التغذية والصحة، حوافز قوية لاتهام الرأسمالية.

(3) يجب ان تحدونا هذه اللوحة الإجمالية إلى أن نأخذ بالحسبان التوترات والتناقضات التي يعاني منها،اكثر من ذي قبل، النظام بمجمله على صعيد عالمي وبلدان عديدة بمختلف المناطق.

شهد الاقتصاد العالمي ظرفا ملائما لأمد طويل في سياق دورة توسع طويلة للاقتصاد الأمريكي، لكن بزوغ « الرأسمالية الجديدة » لا يفضي إلى طور مديد من التثبيت الاجتماعي-الاقتصادي على غرار حقبة توسع ما بعد الحرب الثانية. إنها تفضي على العكس إلى انكماش عالمي مع ما يرافقه من عمليات إعادة هيكلة وخطط التسريح في الصناعة وحركات البورصة الهائمة. وبوجه أعم، يظل السياق العالمي مطبوعا باختلالات وتفاوتات متنامية على حساب (بمضرة) غالبية سكان الكوكب. وتتعمق باطراد الهوة داخل البلدان المتقدمة نفسها. ان هكذا وضع على الصعيد الاجتماعي-الاقتصادي هو في آخر التحليل اصل الأزمة المعممة إلى حد كبير للقيادات السياسية التقليدية وحتى تفجرها، وما يعترض محاولات ترميم مؤسساتها ودولها من عقبات.

(4) ان التناقضات التي تمزق المجتمع المعاصر على صعيد عالمي وتؤدي إلى كوارث متنامية على كل الأصعدة تفرض على جدول الأعمال، اكثر من ذي قبل، تحديد وبناء منظومة بديلة.

لا شك أن التناقض الرئيس الذي يخترق العالم، ويشكل في النهاية العقبة الرئيسة بوجه سياسة البلدان الإمبريالية الحربية، وبوجه الهجوم العام ضد مكاسب عالم الشغل، متمثل فيما يلي: لم يسبق أبدا في التاريخ ان كان لطبقة سائدة هكذا تفوق على الصعيد المادي (العسكري، التكنولوجي، الاقتصادي، الديبلوماسي)، بينما بالمقابل يتعرض ملايين البشر،المستغلين والمضطهدين، والمهانين والمسحوقين، لنظام لم يسبق ابدا ان بلغ هذه الدرجة من الجور والهمجية على الصعيد الاجتماعي والإنساني. يفعل هذا التناقض فعله يوميا في كل البلدان وفي كل المجتمعات. لا شك ان حدة وتفجرية الأزمة العالمية الناتجة عن عولمة الرأسمال بواسطة سياسة نيوليبرالية تدفع الأقسام المستنيرة من الطبقات السائدة إلى التفكير.

(5) لكن النشاط الواعي والمنظم « للذين في اسفل » كفيل، دون غيره، بمنع كارثة الرأسمالية. لاجل هذا يمثل تجاوز الأزمة التاريخية لـ « العامل الذاتي » بالمعنى الواسع مهمتنا الأساسية.

واخيرا أفضت ردود فعل الشباب والأجراء الجماهيرية المتكررة إلى أول تراكم للقوة والطاقة.

كانت « الحركة المناهضة للعولمة » قد توقفت لحظة وجيزة، لكنها استأنفت ازدهارها بحفز من فقد السياسة الليبرالية والحربية الاعتبار بشكل متزايد. وهي تبدو اكثر من ذي قبل بما هي « بديل جماهيري » على صعيد المجتمع (« ما بعد الرأسمالي »)، وكأمل جديد وكرافعة هامة لتقويم راديكالي للحركة العمالية والاجتماعية العالمية. وسيكون لهذه المواجهة العالمية، التي يرمز إليها بورتو الليغري ضد دافوس/نيويورك، دور حاسم في نتيجة الطور السياسي الحالي. في هذا الإطار العام توجد القوى الاجتماعية والسياسية الرافضة « العولمة » التي تدافع عنها الطبقات السائدة في كل مناطق العالم، ومن شأنها النضال توا أيا كان ميزان القوى وطنيا وعالميا في المرحلة الراهنة. وهي تشمل طيفا من التحاليل والإجابات السياسية، من الحمائية القومية البرجوازية إلى أممية اشتراكية وثورية.

انه في إطار هكذا تعبئة عالمية وانتعاش اعم للنضال، يتعين البحث عن طريق إعادة بناء شاملة للحركة العمالية والمعادية للإمبريالية، وبزوغ قوى جديدة معادية للرأسمالية تخوض تجاربها في الحقبة الراهنة وانتعاش أممية جديدة ومنظمة أممية ثورية.


(1) تؤكد منظمة العمل الدولية في تقرير 1998 ان « إمكانية الاعتراف الرسمي ستكون بالغة الأهمية لاجل توسيع شبكة الضريبة وتغطية أنشطة مربحة عديدة مرتبطة بها ».